ورقة عمل حول رهانات العمل البرلماني في القرن 21
مداخلة عبد اللطيف أعمو
حول
رهانات العمل البرلماني في القرن 21
يونيو 2004
محاور للإشتغال
يعتبر البرلمان من المؤسسات العريقة التي تشكل الأداة الأساسية للممارسة الديمقراطية بالمجتمعات الحديثة. لكنها تواجه تحديات وقوى جديدة في بداية هذا القرن.
ويمكن تلخيص وضعية العمل البرلماني وتحدياته الكبرى في محورين أساسيين :
–1 الإشكاليات الذاتية المرتبطة بالديمقراطية التمثيلية : حيث نتجه نحو تهميش دور البرلمانات في مواجهة السلطة التنفيذية.
-2 رهانات العولمة : والتي تتموقع حول المكانة التي تحتلها السلطة السياسية، والتي عليها أن تتبوأها في ظل هذه الرهانات الجديدة.
وهذا مرده الإستنتاج التالي :
– إننا نلاحظ تحولات في محور السلطة، وليس في اتجاه الهيئات التمثيلية لكن بالأساس في اتجاه مناطق النفوذ التجارية والأقطاب المالية. وهذا يحيلنا على اشكالية انفجار Eclatement أو تحول déplacement مواقع القرار في ظل العولمة وانعكاساتها على الممارسة الديمقراطية للسلطة السياسية.
كل هذه التحديات الكبرى التي تواجه المؤسسات التشريعية تستدعي معالجات دستورية وتنظيمية يمكن تلخيصها في ثلاثة أفكار أساسية، يمكنها أن تكون محاور لتبادل الآراء وتوسيع النقاش حول مضامينها وانعكاساتها على واقعنا الوطني، ومن ضمنها :
-1 الفكرة الأولى : العمل على تعزيز دور المؤسسة البرلمانية باعتبارها محور الممارسة السياسية والتمثيلية الشعبية.
-2 الفكرة الثانية : على المؤسسة التشريعية أن تستعيد مكانتها وتكتسح مجال عملها الأساسي المتمثل في تحديد وتعريف وضبط قواعد المصلحة العامة والشأن العام.
-3 الفكرة الثالثة : إن حيوية المؤسسات الديمقراطية تعتمد بالأساس على التربية وتوسيع دائرة الإهتمام بالشأن البرلماني.
-1 الفكرة الأولى : البرلمان كمركز محوري وأساسي للممارسة السياسية :
على ضوء التحولات الجذرية في مشهد العولمة الجديد وتأثيره على طبيعة ونوعية الممارسة السياسية والعمل البرلماني، فالتساؤلات حول مفهوم الحكامة والمصلحة العامة تستدعي عدة معالجات :
أ) إلى أي حد يمارس المواطنون تأثيرهم على بلورة القرار السياسي؟ وإلى أي حد يمكنهم التأثير على من يملكون سلطة القرار؟
ب) ما هي قدرة البرلمانيين على مواجهة تحول مراكز القرار السياسي ؟ وهل باستطاعة المؤسسة البرلمانية أن تقاوم انزلاق مراكز القرار خارج المؤسسة التشريعية ؟
فالمنظومات البرلمانية عموما تستدعي إصلاحات مستمرة ومواكبة للتحولات العالمية والجهوية والوطنية، كما تقتضي تقويمات تجعلها قادرة على التقليص من كل ما قد يعرقل الممارسة الكاملة لأدوار البرلمالنيين.
لكن مصدر القلق على مسار الديمقراطية على العموم نابع حسب بعض الأخصائيين من الإهتمام أكثر في المجتمعات الحديثة بالحريات الفردية على حساب توسيع دائرة الحريات السياسية والجماعية. مع أن الحرية السياسية هي تعبير عن الممارسة الجماعية للسلطة وللإرادة الشعبية وانضباط الفرد لقرارات الجماعة.
وعلى البرلمانيين ومكونات المجتمع المدني أن يبدعوا ويتصوروا توازنا بين هاته الحريات المتكاملة أحيانا والمتناقضة أحيانا أخرى.
وهذا التوثر في علاقة السياسي بالحريات الفردية والجماعية لا يقتصر في تداركه وإصلاح خلله على الطابع الشكلي للإصلاحات وأنماطها (الإجراءات – نمط الإقتراع – طرق ممارسة السلطة …) بل يتعداه لطرح السؤال المحوري حول معرفة تموقع السلطة وأين نريد لها كمواطنين وكرجال سياسة أن تكون وأن تتموقع ؟
والهدف الأساسي هو العمل على جعل البرلمان الحلبة الرئيسية للمناقشة وللحسم في الإشكاليات والرهانات الكبرى للمجتمع.
وهذا يقتضي العمل المشترك للمنتخبين من أجل تعزيز وحماية قدرتهم على الرقي بمجالات وبقطاعات أساسية كالثقافة والإتصال …
وتتوفر المؤسسة التشريعية عموما على آليات وإمكانيات لاكتساب وإعادة احتلال موقعها المركزي في الممارسة الديمقراطية، ومن ضمنها المراقبة والتشريع.
لكن تفعيل هذه الآليات والإمكانيات تتعدى في غالب الأحيان الإمكانيات الذاتية للبرلمانيين لمسايرة ومواكبة الكم الهائل من التحولات في مجالات عديدة.
كما أن تحسين الأداء البرلماني لمواجهة رهانات القرن الواحد والعشرين يقتضي الإجتهاد والبحث عن وسائل عمل جديدة وملائمة، منها :
– منح المزيد من الحرية والإمكانيات للجن البرلمانية
– التقليص من تدخلات الوزراء في عمل اللجن البرلمانية
– تحديد فترات زمنية كافية لتقديم وبلورة مشاريع القوانين ومناقشتها في العمق.
– إقرار التصويت الحر بشأن قوانين معينة وعلى مستوى المحيط العام للعمل التشريعي، يمكن تحسين الأداء ب :
– التقليص من عدد الوزراء
– تعزيز الديمقراطية الداخلية للأحزاب السياسية
لكن المهم هو الحفاظ عن الإنسجام الداخلي لمؤسساتنا السياسية.وكل تعديل أو إصلاح يجب أن يتم بمراعاة إيقاع تطور الرأي العام.
2) الفكرة الثانية : على المؤسسة التشريعية أن تستعيد مكانتها وتكتسح مجال عملها الأساسي المتمثل في تحديد وتعريف وضبط قواعد المصلحة العامة والملك العام.
إن المنتخبين في غالب الأحيان يكونون في وضعية المتفرج، ولا يؤخذ رأيهم بعين الإعتبار خصوصا فيما يخص جوانب الاتفاقيات الدولية ذات الامتداد الاقتصادي بالبلدان المعنية والتي تنعكس على تدبير المجال محليا وعلى تدبير الميزانيات وطنيا و جهويا، وكذلك فيما يخص المشاريع الكبرى للدولة، والتي لها انعكاسات اجتماعية بالمناطق المعنية.
وانطلاقا من أن الساحة الرئيسية لتحديد “المصلحة العامة” هي الحلبة السياسية، فعلى المؤسسة التشريعية أن تستعيد مكانتها وتكتسح مجال عملها الأساسي المتمثل في تحديد وتعريف وضبط قواعد المصلحة العامة والشأن العام.
حسب بعض المحللين، فإذا لم يتمركز محور القرار السياسي بالبرلمان بخصوص الإتفاقيات الكبرى ذات البعد الاقتصادي، فالديمقراطية البرلمانية والعولمة ستظلان متناقضتان.
وهذا يتم من خلال :
– إعادة الإعتبار للعمل السياسي ككل،
– تموقع البرلمان كمحور سياسي لتحديد مفهوم الصالح العام وتقنينه وضبطه قانونيا،
وعلى المستوى التواصلي :
يلاحظ أنه بالموازاة مع مساهمة نخبة من البرلمانيين في العمل الكثيف والنقاش الحاد داخل اللجن البرلمانية وداخل الهيئات السياسية التي ينتمون إليها، فعمل البرلمانيين لم يحظ بعد بالتتبع الموضوعي وبالتغطية الكافية. فصورة البرلماني عند المواطن تكاد تنحصر في كونه ” آلة للتصويت ” على القوانين المعروضة على أنظار البرلمان …
وتشير بعض الدراسات إلى أن مساهمة المنتخبين في العمل التشريعي والإنتاج القانوني الغزير يقابله بالموازاة عدم دراية كافية للمواطنين بالوظيفة والإنتاج التشريعيين.
على مستوى التنظيم :
كما يلاحظ من الجانب التنظيمي تجريد dépossession البرلمان من جزء من اختصاصاته ذات البعد الدولي الثنائي منها والعام، والتي لها ارتباط بالمصلحة العامة ومراعاة التوازنات الكبرى بالمجتمع.
وعلى المستوى المحلي كذلك، يلاحظ تجريد البرلمان والسلطة التشريعية من جزء من سلطة المراقبة بشأن مؤسسات ومنظمات تتلقى دعما عموميا دون مراقبة برلمانية لكيفية استعمال الموارد بناء على المصلحة العامة وضوابطها القانونية.
ومهما كانت الظروف وملابسات القرارات والإجراءات المرتبطة بصرف المال العام، فالمواطن حريص على معرفة كيفية صرف المال العام، ومن يتحمل مسؤولية ذلك؟.
ويمكن في هذا السياق دراسة تأثير عوامل شتى على المردودية البرلمانية في مجال المراقبة:
– رصد الإمكانيات اللآزمة للبرلمانيين لمتابعة ملفات صرف المال العام
– تحديد وضبط وظيفة التمثيلية الإنتخابية
– دعم التواصل عن قرب مع الناخبين بالدوائر الإنتخابية التشريعية
– دعم التخصص حول الإشكاليات الكبرى لدى البرلمانيين ومقترحات التشريع الملائمة لعلاجها
– استعادة الدور المركزي للبرلمان في مواجهة العولمة : سوق التشريع (سيادة القانون) بدل تشريع السوق (سيادة المال)
وهذا الجانب يحيلنا عمليا على أنشطة تحسيسية على شكل : ” مبادرات برلمانية ” على سبيل المثال :
– أخذ المبادرة واقتراح استشارة واسعة لدى أوساط الحقوقيين والإعلاميين ورجال الأعمال والفاعلين الجمعويين… حول انعكاسات اتفاقيات التبادل الحر مع السوق الأوروبية وأمريكا ووحدة دول شمال افريقيا وميثاق أكادير… على بلادنا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا… والعمل على نشر مضامين وخلاصات الإستشارة،
– تكوين شبكات للبرلمانيين على صعيد الفرق البرلمانية وعلى الصعيد الجهوي والقاري والدولي،- تعزيز سبل التعاون بين نوادي وجمعيات ووداديات البرلمانيين القدامى من جهة ومع المنظمات الدولية والمنظمات الغير حكومية من جهة أخرى،
– وضع خطة تعاون في المجال التواصلي مع وسائل الإعلام والمنظمات الغير حكومية،
– خلق إطار لتبادل الآراء بين البرلمانيين الممارسين وقدماء البرلمانيين حول مجال التشريع وملائمته.
ومن الجانب التقني :
– إنشاء خلية لمتابعة مدى احترام ميكانيزمات rythme العمل البرلماني: يعتبر البرلمان بطبيعته جهازا تشريعيا منتجا لنصوص قانونية يقتضي فحصها وتحيينها وتعديلها ودراستها ومناقشتها والمصادقة عليها وقتا طويلا، في حين تفرض تقنيات الإتصال والتواصل الحديثة السرعة والآنية في رد الفعل.
ومن الملاحظ على الصعيد الدولي، أن البرلمانات والمؤسسات التشريعية انساقت وراء السرعة التي تفرضها قوانين السوق ووسائل الإتصال على حساب التروي والفحص العميق الذي يقتضيه العمل التشريعي. فعلى البرلمانات أن تشتغل بضوابطها الزمنية.
3) الفكرة الثالثة : التربية على المواطنة من الآليات الأساسية لتجديد حيوية المؤسسات الديمقراطية:
إن العزوف عن العمل السياسي و”احتقار” الوظيفة السياسية مصدره في غالب الأحيان جهل المواطنين بالمؤسسات وطرق اشتغالها. فتصور المواطنين للسياسة وللمؤسسات وللديمقراطية من قبيل المجرد. فمن السهل توجيه اللوم لشئ مجرد، لأننا لا نستطيع الإحاطة به في شموليته.
من جهة أخرى، فالمواطنون لا يهتمون بالشأن العام لأنهم يجدون أنفسهم في وضعية غير مريحة أمام النقاشات الحادة والوضعيات المتناقضة والآراء المتضادة.
وعلى البرلمانيين أن يلعبوا دورهم كاملا في عملية تقريب المواطنين من المؤسسات وماهيتها ومن العمل السياسي ككل، وذلك بالتعريف بطبيعة المؤسسة التشريعية باعتبار البرلمان المكان الطبيعي الذي تضطلع في إطاره الديمقراطية بمهام تدبير الخلاف والجدل والمشاداة … الموازية والملازمة للنقاشات الكبرى بالمجتمع.
وإشكالية الإدراك الحسي والتمييز الايجابي لدى المواطنين للعمل السياسي لن تجد لها حلا إلا بجهد تربوي كبير ومتواصل.
فعلى المواطنين أن يدركوا كيفية اشتغال المؤسسات الديمقراطية، كما أن عليهم أن يحسنوا تقدير الرهانات الكبرى وأن يعوا كذلك حقوقهم وواجباتهم في ظل هذه الرهانات.
هذا الشرط أساسي ليتحقق لدى المواطن الوعي الكامل بأهمية العمل السياسي الذي يتوخى الصالح العام، وكذا الإحساس بدور ممثليهم في تحسين الأداء السياسي والرقي به.
دور الإعلام :
يحق لنا أن نوجه العتاب والنقد لطرق التحليل الصحفي للنقاش السياسي على العموم في سطحيته وعمومياته وآنيته وعدم غوصه في العمق، مما يعزز لدى المواطنين قابلية العزوف والنظرة السلبية للممارسة السياسية.
لكن يحق لنا كذلك أن نعتبر أنه في مواجهة مستهلكين للخبر يتميزون بالقدرة على فهم الرهانات الكبرى وفهم مغزى تدخلات ممثليهم وإعطائها وزنها وبعدها الحقيقي في سياق هذه الرهانات والتحديات والإكراهات، فالصحافة تستطيع في هذه الحالة أن تصحح بفعالية أكبر النظرة السلبية للعمل السياسي وأن تتدارك الأخطاء والهفوات.
فالمنتوج الإخباري يصبح ذا حمولة نوعية، لأن المواطن المستهلك لهذا المنتوج يكون متبصرا وذا دراية بالشأن السياسي (citoyen exigeant)
نخلص إلى أن المنتوج الإخباري النوعي في قراءته للعمل السياسي رهين بتربية المواطن وتوفير آليات للفهم في متناوله.
لكن يبدو كذلك أن البرلمانيين في انتقادهم لدور الإعلام يسيؤون لصورتهم في مواجهة الرأي العام بالإهتمام الزائد والمفرط بردود فعل الصحافة وتأثيرها على شعبيتهم. وهذا يجعلهم يحسبون ألف حساب لأفعالهم ولأقوالهم وينزلقون في اتجاه وقع الخبر وتأثير الخطاب أكثر من مضمونه ومحتواه وعمق دلالاته، وهي النزعة نحو السياسة المشهدية politique spectacle ou spectacle politique
ويمكن للبرلمانيين القدامى أن يوسعوا الحوار حول ارتباط العمل البرلماني بالوظيفة الإعلامية والتربوية.
وقد حاول أحد البرلمانيين الكنديين الإجابة عن سؤال حول طبيعة دوام عجز السلطة البرلمانية في مواجهة الرهانات الداخلية والخارجية بأنه لا يؤمن بصحة هذه الفرضية، لأنه علينا بكل بساطة أن لا نترك لهذه الفرضية أية فرصة للتحقق. لأن علينا أن نستمر في الإيمان بأن الرغبات الكبرى تولد من صلب الإبتكارات والإبداعات والتجديدات الكبرى.
وعلينا جميعا، ونحن نستحضر كل معيقات العمل البرلماني في الوقت الراهن، أن نتقاسم هذا الإقتناع الراسخ، ونوسع مجال الإقتناع به.
عبد اللطيف أعمو
مستشار برلماني
يونيو 2004
أضف تعليقاً