جاذبية المجالات الترابية رهان أساسي للتنمية
على هامش الجريمة النكراء التي استيقظت مدينة تيزنيت على هولها، يوم السبت 15 يناير الماضي، والتي قضت مضجع ساكنة المدينة بنفس القوة التي أيقظت بها الشعور الوطني، وولدت ألما وإحباطا شديدا لدى محبي هذه المدينة الهادئة، داعية للترحم على روح ضحية هذا الاعتداء وتقديم عبارات المواساة والعزاء لأهلها وذويها، فأيقظت في ذاكرتنا ذكريات خلت. حيث أنه قبل عشر سنوات من يومنا هذا، وفي تصنيف وطني للـمدن المغربية الكبرى والمتوسطة والصغرى، كانت مدينة تيزنيت من أحسن الفضاءات الوطنية التي توفر جودة الحياة، في بيئتها وهدوءها وفي مقومات الحياة والتنشيط الحضري، ثقافيا ورياضيا وتراثيا، … وكانت مدينة الفضة مصنفة ضمن المدن المغربية الأكثر جاذبية، والتي تتميز بجودة الحياة، حيث تبوأت المدينة مراكز متقدمة في العديد من المؤشرات «البيئة، المناخ، الثقافة، السكن، … في “باروميتر الجاذبية 2011” المنجز خلال شهر يوليوز 2011. وكانت مدينة “بدون صفيح” بامتياز.
فماذا وقع خلال عقد من الزمن؟ وماذا حصل حتى تتحول المدينة إلى بؤرة لإنتاج الجريمة؟
اليوم، تراجعت المدينة، وفقدت الكثير من بريقها، وبدت تطفو إلى السطح بوادر المدينة الصفيحية المهمشة، حيث تحولت إلى مستودع لإيواء المهاجرين غير النظاميين، الذين يعيشون في الهوامش بمختلف المدن، فيما تستمر الحافلات في تفريغ “المختلين عقليا” والمتسكعين من جهات أخرى، دون رقيب، وبدون اتخاذ تدابير عملية لتوفير مراكز استقبال وإيواء لائقة لهذه الفئات من “مواطني الهامش”، وبدون الحرص على ضمان تطوير المدينة اعتمادا على ترصيد مكتسباتها، والحفاظ على توازنها. مما يعني فتح ورش تخريبها.
فبالرغم من عدم وجود إحصائيات رسمية دقيقة ومحينة لظاهرة الهجرة غير النظامية في المغرب، فوفقا لمعطيات 2013 ، فالتقديرات تشير إلى وجود قرابة 50 ألفا، على التراب الوطني، معظمهم من دول جنوب الصحراء.
وبالرغم من المجهودات التي بذلها المغرب في سبيل تسهيل اندماج المهاجرين الدوليين، تشير المعاينات الميدانية إلى أن انتشار المهاجرين يتم أساسا في ثماني مدن رئيسية (طنجة، تطوان، الحسيمة، الناضور، وجدة، الرباط، الدار البيضاء، فاس) باعتبارها بوابات رئيسية، ثم يمتد انتشارهم إلى ست عشرة مدينة أخرى، إما بسبب موقعها كمناطق عبور أو لكونها هدفا لعمليات الترحيل التي تقوم بها السلطات. وتعتبر تيزنيت في مقدمة هذه المدن، التي يتخذها المهاجرون الغير النظاميون، مكرهين، محطات استراحة قسرية، في انتظار رحلة العودة إلى المدن الرئيسية التي هُجًروا منها.
والأكيد، أن دينامية الهجرة الغير نظامية لم تتوقف، ولن تتوقف، بالرغم من إجراءات حالة الطوارئ الصحية في المغرب، ولم تتقلص حركة القادمين من مختلف الجهات، جراء القيود المفروضة على التنقل داخل المدن وبينها. وأن الأمر لا يمكن أن يقتصر على مجرد ركن الناس parquer les gens وإرسالهم بعيدا عن الأنظار، ورميهم في “زوايا” الوطن والبحث عن حلول ترقيعية وظرفية لإيهام الذات بأن الحل قد وجد أو أن المشكل قد استبعد، دون استحضار الآثار السلبية الوخيمة، التي قد تترتب عن هذه المعالجة، تجاه ساكنة أخرى في مدن مستقرة، وبالخصوص منها التي بذلت جهدا غير يسير لرسم طريق نموها، اعتمادا على تعبئة ساكنتها، كما هو الحال بالنسبة لمدينة تيزنيت.
فقد نعتبر منطقيا بأن هذا “المختل” الذي يتيه في شوارعنا أو في فضائنا العمومي، بدون مأوى، أو أن المهاجر القسري، الذي يقف أمام أعمدة الأضواء الثلاثية، بجنبات طرقنا، ليستجدي صدقة … هم، قبل كل شيء شهود على اضطراب ما، في مكان ما من هذا العالم.
وأن استقبال هؤلاء المهمشين والترحيب بهم، والتعامل معهم بإنسانية، هو بالفعل مساهمة، بطريقة ما، في تهدئة هذا الاضطراب؛ ومحاولة احتوائه. وأن الاستماع إليهم والتفكير معهم (ومع الآخرين) هو محاولة لفهم هذا الاضطراب، وهذه الفوضى التي تغزو منطقتنا وتطوقها، بجانب غزو جحافل الجمال والرعاة لفداديننا وحقولنا، وتخريب غاباتنا. وهي فوضى سياسية واقتصادية واجتماعية وبيئية وثقافية مركبة ومعقدة.
ويبقى الجزء الأصعب كامنا في محاولة السيطرة على هذه الفوضى، محليا ووطنيا، لأنه لا يكفي علاج الأعراض وكشف علامات المرض للادعاء بأن المريض قد تعافى.
قبل أيام، وتحديدا في يوم الأربعاء 19 يناير الجاري، صدر حكم عن محكمة بروكسيل الابتدائية، بإدانة الدولة البلجيكية، وكذلك الوكالة الفيدرالية لطالبي اللجوء Fedasil، لسوء إدارتها لأزمة استقبال اللآجئين. ووفقًا لهذا القرار، فالدولة لم تف بالتزاماتها الدولية، وتصرفت بشكل غير قانوني من خلال تقييد حق اللجوء، وعدم توفير شروط استقبال لائقة. فهل ستنتظر الدولة المغربية إدانة قضائية أو حقوقية لتتحرك في مواجهة هذا القصور البين؟
إننا نعرف الآن أن هناك ترابطا متزايدا وعلاقة جدلية بين المستويات المختلفة من المشاكل والفوضى التي تجتاح عالمنا. لذلك، ليس فقط من منطلق النخوة أو الكرم الزائد، أو الإنسانية المثالية، ولكن أيضًا بدافع الواقعية والاهتمام بالحفاظ على التوازنات، فقد حان الوقت للسعي للسيطرة على هذه الاضطرابات أو التخفيف من حدتها.
وبحكم أن جاذبية المجالات الترابية هي الرهان الأساسي للتنمية، فهنا وجب إثارة الانتباه، إلى أن المنتخبين – ونحن منهم – بجانب السلطات المحلية وهيئات المجتمع المدني، … مدعوون إلى التفكير في حلول جدية لمواجهة هذه الظاهرة، والدفاع عن المدينة والحفاظ على مكتسباتها، بشكل لائق.
عبد اللطيف أعمو
لمتابعة مقال في الموضوع (موقع لكم)
أضف تعليقاً