تخليدا لذكرى رحيل الأستاذ محمد أخويبي
بدعوة من منتدى أنزا للتواصل وتوثيق الذاكرة، قدم الأستاذ النقيب عبد اللطيف أعمو شهادة في حق الأستاذ محمد أخويبي، بمناسبة تنظيم نشاط تأبيني لإحياء ذكرى رحيل المناضل اليساري الاستاذ المربي والمحامي المرحوم محمد خويبي تحت شعار:”من أجل تحصين الذاكرة المشتركة ومناهضة كل أشكال مأسسة النسيان” .
وفيما يلي نورد أسفله كلمة ذ. عبد اللطيف أعمو تحت عنوان :
“الأستاذ محمد أخويبي: الوفاء لقيم المحاماة ودورها في ترسيخ قواعد دولة الحق والقانون” ،
هذه الكلمة التي نشرت في كراسة تجميعية لشهادات استقاها المنتدى
بمناسبة تخليد الذكرى السنوية لرحيل الفقيد الأستاذ محمد أخويبي، نوردها أسفله تعميما للفائدة:
للإطلاع على محتوى الكراسة (انقر فوق الغلاف أسفله)
الأستاذ محمد أخويبي:
الوفاء لقيم المحاماة ودورها في ترسيخ قواعد دولة الحق والقانون
قد لا يعرف العديد من الأطر التربوية أو من آباء وأولياء التلاميذ المتمدرسين بالمدرسة الابتدائية التي تحمل اسم الأستاذ ” محمد الخويبي ” بتجزئة الحسنية بأنزا، من هو الأستاذ محمد أخويبي؟ وقد لا يصل صدى فعله وإنجازه لعقود من فترة الستينات إلى تسعينات القرن الماضي إلى أسماع الكثيرين اليوم ومدى تأثره وتأثيره ومدى ارتباطه العضوي بهذا الفضاء الحضري العمالي.
محمد أخويبي يعتبر أحد أركان ذاكرة مدينة أكادير، وبالذات في عمقها الشعبي والعمالي بحي أنزا. هذا الحي الذي يعتبر أحد مكونات مدينة أكادير الذي احتضن منذ بداية القرن الماضي أهم الأنشطة الصناعية والتحويلية التي عرفت بها المدينة، وبالخصوص في مجال تعليب وتصبير السمك المتمركز داخل هذا الحي المتاخم للمحيط، والمعروف بنضالات ساكنته حول أنشطة معاشهم، وكل ما له علاقة بالحياة الاجتماعية داخل هذا الفضاء الشعبي العمالي.
فكان بذلك حي أنزا قطبا حيويا نابضا بالحياة، قويا بطاقاته البشرية ومشعا على محيطه المباشر وعلى باقي أحياء أكادير الكبير، حيث كابد وقاوم سكانه وقت الزلزال، فاحتضن الحي كثيرا من ضحاياه بعد سنة 1960، كما أيقظ هذا الفضاء الهامشي ضمير ساكنة المدينة، حول بذل الجهد والتضحية والعطاء من أجل تحقيق التماسك الاجتماعي وقت الشدة ووقت الرخاء، حول شعار إعادة إعمار مدينة الانبعاث واسترجاع وهجها وتألقها.
في هذه الأجواء، وفي هذا الفضاء الحضري، ترعرع ونشأ الطفل محمد أخويبي، وتتلمذ بسلك الإبتدائي بأنزا، ثم انتقل إلى الإعدادي بأكادير، أملا في معانقة مهنة التدريس بعد الباكالوريا، وظل مسكونا منذ نعومة أظافره بهموم محيطه العائلي وفضاءه السكني والاجتماعي، ومفعما بحيوية الشباب، رغم قساوة الحياة وظروف عمل أهله القاسية، بجانب بقية ساكنة الحي من الطبقة العمالية، في مواجهة دائمة للقهر والعزلة والتهميش وسوء المعاملة وهضم الحقوق، من طرف مجموعة من المحتكرين لكل نشاط صناعي وتجاري مدر للربح.
هنا، ظهرت مواهب الطفل أخويبي النضالية من أجل التحرر وانعتاق ساكنة الحي. فبرز بنبوغه في مجال التأطير الثقافي ثم النقابي، وهو ما زال طفلا في مرحلة الابتدائي، وازداد شغفه وولعه بالتنظيم وتأطير التلاميذ والشباب في المدارس والحي، ومارس التنشيط داخل ما تحصل آنذاك من فضاءات وبنايات محدودة الوظائف، مخصصة لتأطير الشباب وقتها، وبالخصوص دور الشباب.
وهنا التقت طموحاته وعواطفه وتطلعاته، فاندمجت في تناغم مع طموحات وانتظارات عدد من شباب جيله، فتكونت نواة للعمل الجماعي الموجه والمؤطر داخل حي أنزا، من خلال تنظيمات ثقافية تشمل أجناسا مختلفة وتهتم بأنشطة عديدة، من موسيقى ومسرح ورياضة، وغيرها…
كما شكلت الثقافة وقتها مدخلا من المداخل المميزة لولوج فضاءات أوسع للإبداع والحرية والتعبير الحر وللانفتاح على الآخر، من أجل بناء تصورات وإبداع مشاريع صغيرة لفائدة الشباب. فتكونت لدى محمد أخويبي قدرة على الاستماتة والصمود من أجل تحقيق الأهداف التي رسمها في آجال مضبوطة ودقيقة.
فظهرت بوادر قدرته على القيادة وكفاءته في التنظيم والتأطير منذ بداية مرحلة تمدرسه، إلى أن استكمل دراسته وأصبح من الفاعلين الأقوياء والمميزين في مجال العمل النقابي والتنظيمي داخل فضاءات أوسع من الحي، لتتعدى سمعته الفضاء المحدود مجاليا إلى فضاءات أوسع تشمل المدينة والإقليم.
وكلما أبعدته ظروف الحياة ودروبها عن حي أنزا، إلا وعاد إلى مهد طفولته شوقا واحتسابا وأكثر عزيمة. فبعد تجربة التدريس بنواحي إيمنتانوت بداية السبعينات، وإثر حصوله على شهادة البكالوريا وتخرّجه من المركز الجهوي استاذاً للغة الفرنسية دعاه الحنين إلى حيّه الأصلي أنزا. فعين أستاذا بإعدادية ابن خلدون بأنزا أواسط السبعينات. وأدت به مواقفه السياسية البطولية، بسبب تأطيره لإضرابات محلية إلى اعتقاله وطرده من الوظيفة العمومية، إثر الإضراب الوطني في قطاعي الصحة والتعليم في 10-11 أبريل 1979.
ومن علامات الإصرار وعدم الرضوخ لليأس، قرر متابعة دراسته الجامعية في الحقوق والدراسات القانونية بالدار البيضاء، ليتوجها بالحصول على الاجازة، والعودة ثانية إلى مهد طفولته بأنزا، ممتهنا المحاماة، إلى حين اعتقاله من جديد في مايو 1983، حيث قضى الفترة المحكوم له بها، والتي لم تزده إلا إصرارا وصمودا في مواجهة الأعباء التي تعترض مسار مشروعه.
وظل الأستاذ محمد أخويبي، وفيا لنهجه التأطيري القريب من الطبقات الشعبية وواصل نشاطه إلى أن استكمل تكوينه السياسي الواسع من خلال مقارعة الواقع بالتأطير الفكري والمذهبي، لتتكون لديه قاعدة تصور بناء مشروع مجتمعي خلاق يستهدف تحرر الإنسان وتطوره ونموه في ظل قيم الكرامة والمواطنة الحقة.
هنا ظهر له أن فضاء المحاماة، وهو المجرب للعديد من تجارب الاعتقال والمطاردة والمحاصرة والمنع، هو مجال فعال في سبيل تحقيق حلم وغاية ترسيخ حقوق الانسان وبناء دولة الحق والقانون.
هنا، وفي هذه الأجواء النضالية الحماسية، تعرفت على زميلي المرحوم الأستاذ محمد أخويبي، فبقيت صورته في مخيلتي مرتبطة بقيم الحرية ومليئة بمشاعر حب الآخر ونكران الذات ونبذ الكراهية ومحاربة كل مظاهر الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي. وبقي في ذاكرتي نموذجا للإنسان الخدوم والوطني الصادق والمهني الخلاق.
فكان همه من موقع الدفاع تجسيد التزام المحامي المتحرر من قيوده والحامل لآمال جديدة في مستقبل واعد مؤسس لدولة الحق والقانون، والذي كان يعتبره عملا شاقا ومرهقا وضروريا يستدعي الاستمرارية والتمسك بالمبادئ الأخلاقية وبالقيم الإنسانية لبناء مقومات الدولة الحديثة.
وبذلك، أصبح مدرسة قائمة في مجال تكوين كثير من المحامين الشباب، لفتح أفق الممارسة العملية الميدانية بجانب الجماهير، وفي التصاق تام وعضوي مع همومهم ومشاغلهم وتطلعاتهم، وفي ترسيخ لقيم الاعتماد على النفس وجعل المحاماة رسالة مجتمعية لا يمكن الاستغناء عنها.
وكان، في نهاية الثمانينات، من أبرز المؤسسين لاتحاد المحامين الشباب، بل هو المحرك له وصاحب الفكرة. فهيأ نفسه ليمارس تأطير المحامين الشباب ودفعهم للبحث عن وسائل تطوير أدائهم المهني وتنظيماتهم المختلفة في إطار تحديث وتطوير أداء مهنة المحاماة كوسيلة لتبليغ رسالة حقيقية تسعى إلى تحقيق المواطنة الكاملة وبناء المستقبل، وكان صوتا قويا للدفاع عن حقوق العمال والمأجورين، وارتبط اسمه بلقّب» محامي الشعب «لمناهضته القوية للظلم والتهميش والاستغلال.
وكنت بجانبه وقتها. ورغم العراقيل والصعوبات التي واجهته، كان يراهن على الصمود لتجاوز الصعاب بجانب زملائه الذين شاركوه جهد التأسيس والتطوير وبلورة الفكرة إلى عمل مشهود.
إلا أن المرض كان له بالمرصاد. مما أضاف لجهده النضالي، مشاق مقاومة المرض اللعين، بقوة وإصرار على مواصلة مشواره نحو تحقيق المشروع المهني الذي كان يحمله، والقائم على مفاهيم الوفاء لقيم المحاماة وخصالها ودورها الرائد في قيادة المجتمع وحشد الهمم.
ومن خصال وخصوصيات زميلنا المرحوم أنه اجتمع فيه ما تفرق في غيره، حيث استكمل مقومات النضج السياسي وتنمت لديه قدرات الحوار والانفتاح ومناهضة كل فكر شوفيني أو راديكالي وكل نزعة من النزعات التي تزرع الإحباط والتشاؤم، فظل حتى آخر رمق من حياته، شعلة متقدة ومضيئة، تدعو إلى تنمية الآمال وزرع الثقة في النفوس وتشع بالأمل في المستقبل، قوامها الصبر والإخلاص وزادها الرّوح الصادقة والمعنويات العالية.
وهكذا، تجده صديقا للجميع، محبا للخير للجميع، لا يحمل ضغينة تجاه أحد، وليس في قلبه حسد ولا غل ولا بغضاء، بحيث لم يسجل عنه أن لديه خصوما، ولا مناهضين، سوى من لم يكن يرضى أن يكون المجتمع قادرا على إفراز نخب ناضجة في المجال السياسي والنقابي والمهني، قادرة على تحمل مسؤوليات القيادة بقوة وثبات وإرادة. وبذلك، نسج علاقات قوية وغنية ومختلفة ومتنوعة، يسودها الاحترام المتبادل والصدق في التعامل الصريح والواضح.
وكانت فترة مرضه عبارة عن تعذيب يومي ومستمر وقاسي لنا جميعا، لما نشعر به من آلام عميقة وإحباط شديد، ينبثق من قناعة أن الفقيد الذي غادرنا إلى دار البقاء في 29 أكتوبر 1991 بدأ مشروعا لم يستكمل بعد كل مقوماته وأركانه.
ولا يفوتنا بالمناسبة إلا أن نجدد تقديم خالص التعازي لزملائه ولوسطه المهني، ولكل أقاربه وذويه، وأصدقائه ومحبيه، معبرين عن أحر وخالص عبارات مواساتنا، مقدرين فداحة الرزء في رحيل أحد أعمدة الذاكرة الجماعية لمدينة أكادير، وبالذات في عمقها الشعبي والعمالي بحي أنزا، والذي ساهم في خدمة وطنه بكل تفان وإخلاص ونكران ذات.
عبد اللطيف أعمو
وفيما يلي نعرض الوثائقي الذي أعده منتدى أنزا للتواصل وتوثيق الذاكرة بالمناسبة
تحت عنوان: محمد أخويبي، فيلسوف الأمل.
أضف تعليقاً