مذكرة حزب التقدم والاشتراكية حول إصلاح منظومة العدالة
– I –
تمهيد عام
تعتبر العدالة نظاما لتسيير المجتمع على قاعدة الإنصاف ومبادئ العدل والقانون، تؤهل الفرد ليحترم الآخر. وتعني في مظهرها القانوني السلطة المكلفة داخل مجتمع معين بضبط الحق والحسم في النزاعات حوله.
فإذا كانت دراسة الأنظم القانونية من اختصاص القانون المقارن، فإن دراسة العدالة كمؤسسة نابعة من سوسيولوجية قانونية تسمح بربط العلاقة بين المبادئ الروحية والسياسية والمجتمعية التي تتأسس عليها منظومة المجتمع والكيفية التي تترجم بها في حياة الناس.
وانطلاقا من هذا، فإن المجتمع المغربي عرف عدالة تعتمد على الفكر الشرعي الإسلامي في نظامه السياسي، وعدالة تعتمد كذلك على القانون العبري تطبق على المغاربة اليهود، وعرف في نفس الوقت عدالة تعتمد مفهوم القانون أو العرف. وكلها تمارس باسم الملك، سواء كانت تستنبط معاييرها القانونية من الدين أو من القانون.
ومقابل هذا، فإن دولة القانون تعتبر مفهوما يحدد المعنى الحديث للدولة، والذي يدل على ضمان الحريات العامة، ويعني احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية بواسطة إقامة آليات للحماية القانونية. وتعتبر السلطات السياسية داخل هذا النظام نفسه خاضعة لواجب احترام القانون.
ودولة القانون تقوم بامتياز على مرجعية احترام الحريات الفردية للمواطنين ضد كل تحكم سلطوي كيفما كان، وذلك بواسطة نظام قانوني ودستوري صريح ينص على هذه الضمانات.
وكل إخلال أو استثناء من هذه القاعدة يؤدي إلى وضع الدولة في خانة الدول الشمولية، والتي لا تحترم فيها الحريات الفردية الأساسية. وتبقى بذلك الديمقراطيات المتميزة بدولة القانون أو العدل هي التي تلعب الدور الأساسي في إشعاع القانون.
إن المغرب كبلد إسلامي تطور نظامه القانوني من نظام متعدد (شرعي – عبري – دولي – عرفي) إلى أن استقر الأمر بوضع نظام قضائي موحد ومعرب في سنة 1965. وعرف النظام القضائي المغربي مراحل من الاستعمارية الاقتصادية إلى الاستعمارية القانونية والقضائية، ثم من الاستقلال السياسي إلى الوحدة والمغربة وتعريب القضاء.
وفي سنة 1974 عرف نظاما ممركزا تقنيا ومتصلبا مس كل مكتسبات إصلاح 1965، لينتقل بعد ذلك سنة 1992 إلى محاولات استدراكية عبر تعديلات جزئية في النظام القضائي.
وعلى طول هذه المرحلة طرح بإلحاح سؤال الإصلاح العميق للقضاء بجانب مهامه الكلاسيكية، حيث أصبحت تترسخ معالم ضرورة تحويل النظام القضائي من مجرد شرطي للأمن والاستقرار الاجتماعي إلى وضع نظام للعدالة له وظائف سامية كفاعل أساسي في مسلسل الدمقرطة العميقة للمجتمع وحماية حقوق الإنسان وترسيخ دعائم دولة الحق والتقدم الاقتصادي والاجتماعي.
ومن أجل مواجهة هذه الوظائف الجديدة أصبح مطلوبا من العدالة المغربية وبإلحاح أن تكون ذات كفاءة وفعالية. وقبل ذلك أن تكون ذات مصداقية وموثوقا بها.
فبزغ بذلك، وبشكل واضح ومطلق، الإجماع على ضرورة الشروع في إصلاح القضاء بشكل جاد وعميق منذ سنة 1996.
هذا الإصلاح والتأهيل الذي لا بد أن يمر عبر نفس وأمد طويلين، ويتطلب إرادة سياسية قوية وإمكانيات بشرية ومادية في مستوى الطموحات والانتظارات.
فانطلق الإصلاح من عدة منطلقات تهم إعادة الاعتبار للمنظومة القضائية بجميع مكوناتها المادية والبشرية وتأهيلها ووضع تصورات حول مواجهة المعضلة الخلقية والتدخلات ودعم أجهزة المراقبة والتفتيش ومحاولة تحريك عمل المجلس الأعلى للقضاء ووضع عدد من البرامج الإصلاحية، فظهرت بعض ملامح هذا المجهود خلال سنة 1996 إلى غاية سنة 2003، حيث بدأ هذا المسلسل يعرف تقهقرا بعد تسجيل عدد من التراجعات إلى يومنا هذا، شملت مجال جميع أنواع المحاكمات السياسية منها والاقتصادية والمسار العادي للقضاء، وذلك بسبب ظهور بعض القوانين الجديدة التي هيئت بشكل سريع، ولها ارتباط بمواجهة الجريمة المنظمة كالإرهاب والمخدرات…
إن بواعث ضرورة استمرار مشروع الإصلاح الحقيقي والعميق كثيرة وقوية، كما ظهرت في عدد من الخطابات الملكية المتعددة (خطاب العرش في 30 يوليوز 2007 – افتتاح الدورة التشريعية يوم 12 اكتوبر 2007 – خطاب العرش في 30 يوليوز 2008– خطاب افتتاح الدورة التشريعية يوم 14 أكتوبر 2008 – الرسالة الملكية بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخمسين لتأسيس المجلس الأعلى للقضاء – الخطاب الملكي السامي ل 20 غشت 2012 – الخطاب الملكي في 8 أكتوبر 2010 – الخطاب الملكي في 9 مارس 2011…)
وانطلاقا من التوجيهات الملكية السامية، أصبحت الحكومة مطالبة بالإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة بالمساهمة الفعلية والشاملة لكل الفاعلين في المحيط القضائي من أجل تنفيذ اختيارات الميثاق بشراكة مع الفاعلين في القطاع.
– II –
الوضعية الراهنة
انطلاقا من التطور الذي عرفه مسار الإصلاح القضائي يمكن إجمال الوضعية الراهنة للقضاء والعدالة في البلاد في ثلاث أوصاف:
1) عدالة موجهة (الجريمة المنظمة – القضايا الاقتصادية الكبرى – الصحافة– الجوانب المرتبطة بمواقع الهيمنة) ولو لم يكن ذلك بصفة مباشرة.
2) العدالة اليومية والتصريفية، وتهم المواطنين البسطاء العاديين، وتمارس في بعض الأحيان خارج كل قواعد المحاكمة العادلة والضوابط الإنسانية والقانونية (حالات التلبس – الحراسة النظرية – الاعتقال الاحتياطي – صعوبة الولوج)
3) العدالة التي تمارس ربما بالمقابل المادي أو المعنوي، وتهم كثيرا من المجالات في القضاء المدني والتجاري والإداري والجنائي.
ناهيك عن المشاكل المرتبطة بغياب النجاعة لا في إدارة المساطر ولا في التبليغ وتنفيذ الأحكام.
إن هذا الوضع كاد أن يكون موضوع تشخيص عام، نكاد نجده في غالبية التقارير التي تهتم بمجال القضاء.
هذا لا يعني التنقيص أو التيئيس أو تجاهل مجهودات الدولة ومقاومة البؤر التي لا تريد الإصلاح، إلا أن الراسخ في الساحة العامة مع كل أسف يكمن في فقدان الثقة, وبذلك فإن الهدف الأول للإصلاح يندرج في إعادة الثقة وتقويتها بإعداد مؤسسة قضائية قوية قادرة على إنتاج العدل بين الناس.
فــــــــــماذا تـغيـر الــيوم؟
إن مطلب ضمان كرامة المواطن المغربي الذي كان في قلب المطالب الشعبية الرئيسية، بجانب شعار المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب الذي رفع إبان الحراك الاجتماعي بداية سنة 2011، يطرح بحدة إشكالية العدالة وضرورة مصالحتها مع المواطن المغربي. وهي مطالب استجاب لها عاهل البلاد في الخطاب التاريخي ل 9 مارس 2011..
1 – إرادة ملكية قوية:
لقد تأكد اليوم أن مطلب الإصلاح أضحى أمرا جوهريا يدخل في صلب دولة الحق والقانون، وهذا ما أكدته الخطب الملكية الأخيرة، حيث شكل الخطاب الملكي السامي ل 20 غشت 2012 قاعدة قوية لتحقيق الإصلاح القضائي من خلال وضع خارطة طريق لإصلاح منظومة العدالة، وجاء الخطابان الملكيان ليومي 8 أكتوبر 2010 و 9 مارس 2011 ليضيفا مفهوما جديدا للإصلاح القضائي وهو “القضاء في خدمة المواطن” ويرتقيا بالقضاء إلى سلطة مستقلة بجانب السلطتين التشريعية والتنفيذية.
2 – دستور يكرس استقلالية القضاء ويرتقي بالقضاء إلى سلطة:
وتوج هذا المسار الإصلاحي التصاعدي بتبني دستور جديد صدر بمقتضى الظهير الشريف رقم 91-11-1 بتاريخ 29 يوليوز 2011 والذي جاء بإصلاحات جوهرية من أهمها:
– الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية لتعزيز مبدإ فصل السلط،
– تكريس دور القضاء كضامن للمحاكمة العادلة وكمرسخ لسيادة القانون ومساواة المواطنين أمامه،
– دسترة ومأسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية ،
– دسترة استقلال القاضي وعدم التدخل في سلطته،
– تكريس حقوق المتقاضين،
– جعل الأحكام القضائية رمزا لتطبيق القانون واحترامه، ولا تصدر الأحكام باسم جلالة الملك إلا إذا كانت مطابقة للقانون،
لكن الإصلاح القضائي لا ينتهي بصدور الدستور الجديد، بل تعتبر هذه المرحلة بداية ورش تحضيري لمقومات السلطة القضائية المستقلة في إطار إصلاح شامل وعميق لمنظومة العدالة يتضمن تأهيل الموارد البشرية وتعزيز مهنية القضاة ونزاهتهم وتجردهم وتسهيل ولوج العدالة وتحديث الإدارة القضائية .
3 – التزام حكومي صريح
التزمت الحكومة بإعداد القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والقانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاة مع مواكبة تحديث المنظومة القانونية سواء في الجوانب المتعلقة بإصلاح القضاء في نجاعته وتقنياته وصورته لدى الرأي العام وتسهيل الولوج إليه، وكذلك الجوانب المتعلقة بتحسين مناخ الاستثمار أو بضمان ممارسة الحريات، وتفعيل التزامات المغرب الدولية في مجال حقوق الإنسان.
– III –
المعالجة
بدون شك أن المجهود الذي تبذله وزارة العدل بإدارتها المركزية وعدد كبير من القضاة النزهاء والطاقم التقني والإداري قطع شوطا هاما في مسار الإصلاح، إلا أن المجال الذي نال الاهتمام الكبير هو المجال البنيوي والهيكلي المنحصر في البنايات والتجهيزات والعصرنة وجزء بسيط في مجال التكوين والتكوين المستمر والتحديث.
وقبل إبداء بعض التوصيات والأفكار حول الإصلاح العميق، لا بد من التأكيد على أن إصلاح القضاء يعتبر حلقة مركزية في الإصلاح العام للمجتمع والدولة على حد سواء، من خلال مسلسل انتقالي ديمقراطي بدأه المغرب منذ عقد من الزمان، حيث تأكد خلال هذه المرحلة وجود إرادة سياسية تشمل هرم الدولة بكامله بجانب مطلب مجتمعي وطني. إلا أنه رغم ذلك عرفت مرحلة 1996 إلى الآن ترددا واضحا في كيفية إقحام هذا الإصلاح من أبوابه ومداخله الأساسية والحقيقية. هذا التردد الذي تسبب في تعقيد المسار وتسجيل بعض التراجعات .
لذلك، فإن الظرفية الراهنة، والمرحلة التي وصلها الانتقال الديمقراطي، تستدعي الجرأة والشجاعة لوقف هذا التردد وإقحام الإصلاح الشمولي الهيكلي والبنيوي والمؤسساتي ومتطلبات وضع منظومة أخلاقية وأدوات لحمايتها.
إن إصلاح القضاء ليس مسألة مادية تنحصر في البنايات والتجهيزات والتشغيل والتحديث فحسب، بل هو إصلاح سياسي بامتياز يبين اختيارات الدولة الواضحة في النظام القضائي المناسب للمجتمع، الذي يسعى إلى ترسيخ دولة القانون. هل هو نظام قضائي قانوني عصري؟ أم هو نظام قضائي تقليدي عرفي؟
لذلك، فإن الحديث عن وجود شقين في الإصلاح : شق مادي وشق سياسي، لن يساهم في شق طريق الإصلاح الحقيقي نحو المستقبل، بل سيؤدي على بقاء دار لقمان على حالها، لأن إصلاح القضاء هو مسار ومسلسل طويل يتغير عبر الزمان وعبر تحولات المجتمع، وتقوم بتقويمه وتوجيهه البرامج الحكومية المتنافس حولها ديمقراطيا.
كما أن إصلاح القضاء لا يمكن أن يتم خارج مبادئه التقليدية الأساسية، والتي هي: الاستقلال والحصانة والاكتفاء المادي وحرية القاضي في التعبير. وهذه المقومات كلها أصبحت مدسترة في الدستور الحالي.
فإذا كان الدستور الحالي ينص على استقلال القضاء وحصانة القاضي، فيجب تفعيل هذا النص الدستوري تفعيلا كاملا ينسجم مع متطلبات بناء القضاء العصري بالإقرار بأن استقلال القضاء لا يعني استقلال القاضي لأنه أسمى من ذلك بكثير باعتبار أن المعني في الدستور هي المؤسسة القضائية، ذات الوظائف الموكلة إليها من طرف جلالة الملك كأمانة، ألا وهي إقرار الحق والعدل بين الناس وفق الشروط الضرورية، بينما القاضي ما هو إلا إنسان بشر، وعلى الدولة تأهيله وتمكينه من جميع الشروط الضرورية لممارسة وظيفة القضاء على أكمل وجه. هاته الوظيفة التي تتطلب:
– الحياد الكامل للقاضي،
– الالتزام بمبدإ تكافئ الفرص ومبدإ مساواة المواطنين أمام القانون،
لذلك، فإن الدستور لا ينص على استقلال القاضي، ولكن ينص على استقلال القضاء وحصانة القاضي.
واستقلال القاضي لا يخرج عن كونه استقلالا تجاه رؤسائه داخل المؤسسة القضائية التي يمارس فيها وظيفته القضائية باستقلال تام عن رؤسائه وفق ما يقتضيه القانون ووجدان ضميره، ويجب أن يحاسب عليها وفقا لقواعد الأمانة.
كما أن على الدولة واجب ضمان جودة الأحكام وتوفير كل متطلبات إنتاجها، بما فيها العدل, وهو ما يتطلب منها وضع آليات المراقبة والتخليق بمقتضى القانون وتفعيلها. وهنا تظهر أهمية وظائف المجلس الأعلى للسلطة القضائية، التي يتعين تدقيقها في القانون التنظيمي المرتقب .
ولا يمكن للقاضي أن يمارس مهامه القضائية وفق الأمانة الملقاة على عاتقه إلا بالاستقلال التام للمؤسسة القضائية، وأن يتوفر على حصانة تامة تحميه من التنقيل، ومن كل تأثير كيفما كان مصدره .
ويدخل في باب الحصانة الجانب المادي المتعلق بالمكافأة، والتي تضمن له الصفة والسمو المادي ويضمن له مقومات العيش الكريم. ويدخل كذلك في باب الحصانة حقوق القاضي كإنسان في التمتع بالحرية الفردية من تنظيم نقابي والمشاركة في إطار ما يحدده القانون، دون أن يكون لذلك أي تأثير أو تقاطع أو تشابك مع وظيفته المهنية كقاضي.
من جهة أخرى، إذا كان قصر العدالة المجهز بأحسن التجهيزات والأطر، والمتوفر على أحدث الآليات التي تمكن من إنتاج العدالة، والتي تؤهل فضاء إنتاج العدالة ككل بهدف إصدار حكم عادل، فإن هذا الحكم لن يكون عادلا إلا إذا توفرت له الشروط الصحيحة والسليمة المطابقة لروح الدستور .
لذلك فإن الجانب الأساسي للإصلاح هو إيجاد الجواب لسؤال : كيف يمكن للقاضي أن يكون قادرا على إنتاج الحكم العادل؟ وليس الفضاء وحده هو الضامن لإنتاج هذا الحكم العادل .
ونظن أن ليس من جواب على هذا السؤال إلا من خلال الدستور، وذلك بتفعيل المقتضيات الأساسية الواردة فيه، والعمل على إبراز وتحقيق مضامينه بالملموس من خلال القانون التنظيمي، ولن يتأتى ذلك إلا بمعالجة المسائل التالية :
– تحقيق استقلال القضاء،
– حصانة القضاة من كل ما قد يؤثر عليهم، ولو بوسائل غير مباشرة أو ضمنية ،
– الاكتفاء المادي،
– ضمان الحرية الفردية للقضاة،
وليس هناك من سبيل إلى تفعيل هذه المبادئ إلا بـــــــــــــ:
– تفعيل الدستور، بقوانين تنظيمية خلاقة في مستوى متطلبات المرحلة، وبصياغة واضحة تفيد معنى استقلال القضاء وحصانة القاضي، وترسخ الأمن القضائي،
– تفعيل دور المجلس الأعلى للسلطة القضائية بصلاحيات تشمل الوقاية والتأديب وضمان السلوكات الأخلاقية والقضائية المطلوبة،
– مراجعة القانون الأساسي لرجال القضاء عبر القانون التنظيمي وكل القوانين المرتبطة بالقضاء و فضاءاته ووضع قوانين تكميلية أخرى،
– وضع مخطط ناجع للتكوين يستهدف التكوين المهني بجميع مقوماته العلمية والسلوكية والاندماجية والنفسية.
– الاندماج في التحولات العامة للمجتمع وفي مخططات التنمية وتفعيل السياسات العمومية للدولة .
– تفعيل المراقبة المهنية والرفع منها، وهي من المهام التي يجب أن توكل للمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
– المراقبة الذاتية داخل المحاكم من طرف جسم الهيئة القضائية وجمعياتهم العمومية وآليات مهنية تشارك في التداول وإبداء الرأي(المساعدة التقنية الداخلية) .
– تقرير مسؤولية الدولة حول الإخلالات والأخطاء القضائية كيفما كان سببها مع تعزيزها بالمسؤولية الشخصية في الحالات الخاصة، تفعيلا للدستور .
– مراقبة حياد القاضي ومدى التزامه بقواعد تكافؤ الفرص والمساواة بين المتقاضين.
وانطلاقا من هذه الملاحظات العامة، نرى من الملائم الإفادة ببعض المقترحات نلخصها في خمس مستويات: المجالي والهيكلي والمعياري والمؤسساتي والأخلاقي والتكويني :
1– على المستوى المجالي الهيكلي
نستحضر أن ورش الإصلاح الراهن انطلق من الدستور الجديد للمملكة بعد فترة تأمل استغرقت ما يقرب من عقدين من الزمن جربت خلاله عدد من المبادرات ، إلا أنه في غالبيتها تصطدم بالواقع المر المنحصر في العديد من المشاكل والاكراهات ، منها ما هو بنيوي ، ومنها ما هو ظرفي (الأمية، الجهل بالقانون، قلة التجهيزات التحتية، تفاقم إشكالية الفوارق المجالية، انكسارات المجتمع بسبب الفقر والبطالة،…)
إلا أنه ومنذ سنة 2000 عرف المغرب تحسنا كبيرا في المجال، وفي تحسن مؤشرات التنمية البشرية، والمقاربات الاقتصادية والاجتماعية والتعاقد السياسي على أساس السياسات الاجتماعية والقطاعية وتحسن الوظيفة السياسية وتوسيع وتحسين مجال الأنشطة الاقتصادية والمجتمعية وظهور المجتمع المدني كفاعل مشترك عزز الدستور موقعه.
ومن هذا المنظور، يتعين الأخذ بعين الاعتبار كل المنجزات التي تحققت كقاعدة لتصور إصلاح الخريطة القضائية والبنية المجالية للمؤسسة القضائية وهيكلتها.
فهل إصلاح القضاء محكوم أن يبقى مشتتا ومتعددا، غير متناغم في ظل محدودية الامكانيات المادية والبشرية وعدم كفاية الموارد البشرية الكفأة والمؤهلة؟
وهل إصلاح القضاء على مستوى الخريطة القضائية يندمج في إطار استراتيجية شمولية لتوفير خدمات الدولة في مستوى الجودة والمعايير المطلوبة أو أنه مجرد إصلاح مرفقي يطغى عليه الطابع الشكلي دون مردودية كافية؟
لذلك ، نقترح التفكير في وضع خطة هيكلية لاعتماد خريطة قضائية لتنظيم القضاء يراعي حاجيات القرب لتدبير خدمات عدالة يومية للمواطنين ويراعي في نفس الوقت الخدمات القضائية ذات الطابع المؤسساتي، انطلاقا من أن مفهوم الخصومة ليس هو مفهوم المنازعة.
وانطلاقا من أن هرمية القضاء لها دور أساسي في بناء الدولة الحديثة ، لأنها تنتج الآراء والتوجهات من خلال اجتهاداتها التي تتناغم مع إرادة المشرع الدستوري، انطلاقا من الفقرة الأخيرة من الفصل 113 من الدستور .
وعلى هذا الأساس نتصور هيكلة التنظيم القضائي التي يمكن استلهامها من التجربة التنظيمية القضائية التي عرفها المغرب قبل الاستقلال وبعده إلى غاية 1974.
أ- محاكم الصلح (قضاء القرب):
لهذه المحاكم دور تدبير الخصومات المحلية بين المواطنين سواء تعلق الأمر بالمجال المدني أو الجنائي أو التجاري ، على ألا تتعدى قيمتها 10 إلى 15 ألف درهما (محاكم الأسرة ، حوادث الشغل، القضايا المدنية التجارية، التي لا تتعدى قيمتها 10000 درهم، نزاع الحيازة على العقار، حوادث السير الغير المميتة ، …)
تتوفر هذه المحاكم على رئيس ووكيل الملك والعدد الكافي من القضاة الذي يحدد وفق معايير ، منها الديمغرافية المحلية والجدوى والموقع…
يمكن أن تحدث بجميع المدن التي تتحكم كمجال حضري على محيط لا يقل عدد سكانه عن 50000 نسمة ، أو في المدن مراكز الأقاليم، وليس بالضرورة أن تحدث في كل المدن ، إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك.
ب- محاكم ابتدائية:
تحدث في مركز كل إقليم إذا توفرت معايير الديمغرافية والجدوى والموقع، وليس بالضرورة أن تحدث في كل إقليم، إذا كان هناك تجاوز قد يؤدي إلى إحداث أقطاب للعدالة داخل مناطق أو مراكز تتوفر على شروط ذلك.
ت- محاكم استئناف:
تحدث في مركز كل جهة مع إمكانية تمديد الدائرة القضائية لمحكمة الاستئناف على عدة جهات حسب الأحوال والمعايير المطلوبة.
ج – محكمة النقض:
يجب الحرص على أن يكون عدد القضايا التي تعرض على محكمة النقض محدودة في النوع والقيمة مع إعطاء دور البث بالدرجة الاستئنافية للمحاكم الابتدائية في أحكام محاكم الصلح، والبث بالدرجة الاستئنافية لمحاكم الاستئناف في الأحكام التي تصدر بالمحاكم الابتدائية بالدرجة الابتدائية.
خ- الاحتفاظ بالمحاكم المختصة (المحاكم التجارية والمحاكم الإدارية)
الاحتفاظ بالمحاكم المختصة مع دعمها وتقوية دورها ونجاعتها ومراجعة اختصاصاتها القيمية، وبالخصوص المحاكم التجارية.
د- التسريع بإحداث مجلس الدولة مع تمديد صلاحياته الاستشارية للدولة والحكومة.
ر- إلغاء وحذف قضاء التحقيق بالمحاكم الابتدائية والاحتفاظ به بمحاكم الاستئناف .
س- خلق هيئة قضائية للحريات على صعيد المحاكم الابتدائية للنظر في الاعتقال الاحتياطي وفق ضوابط تحددها معالم السياسة الجنائية المنفذة. ويسند لها النظر في تتبع كل ما يتعلق بتنفيذ الأحكام كبديل عن الاعتقال الاحتياطي.
ش- خلق هيئة قضائية لتنفيذ الأحكام ، وتحديد صلاحياتها واختصاصاتها القضائية.
ص- خلق هيئة قضائية للتسيير والتدبير القضائي في مجال المقاولات عند حدوث الخلل المهدد لاستمرارية المقاولة.
2- على المستوى المعياري
1- المصادقة على الاتفاقيات الدولية التي ما زال المغرب لم يصادق عليها في مجال القضاء وحقوق الانسان. وكذلك البروتوكولات والملاحق الملحقة بها (معاهدة روما حول المحكمة الجنائية الدولية – الاتفاقية الدولية للالتزام بعدم تنفيذ أحكام الإعدام، اتفاقية رقم 87 لقانون الشغل،…)
2- مواصلة المجهود لملائمة القانون الوضعي مع مقتضيات العصر ومع التوجهات الشمولية وطموحات المجتمع نحو الحداثة ونحو الديمقراطية وترسيخ الكرامة والمواطنة في عمق دولة الحق وبناء ثقافة المسؤولية في السماح وممارسة وتطبيق الحريات، مع الأخذ بعين الاعتبار التزامات المغرب الدولية والاقليمية في تحقيق هذا الإصلاح العميق للقانون والعدالة.
3- مما يقتضي إعادة النظر في كثير من النصوص التشريعية القائمة وبالخصوص القانون الجنائي الذي يتعين إعادة النظر فيه في اتجاه ملائمته وتقويته في مواجهة الأشكال الجديدة للجريمة الناتجة عن العولمة وسرعة تنامي التقنيات والتكنولوجيا الحديثة.
4- تحديد معالم السياسة الجنائية الحديثة بكل وضوح وضبط مؤطراتها من تدابير واضحة، مع إلغاء عقوبة الإعدام تأكيدا لإعلان انتماء المغرب إلى منظومة القوانين الانسانية، التي تعتبر بقاء الإعدام ضمن التشريع الجنائي من معوقات التنمية القضائية بين المغرب ومختلف الفضاءات السياسية والاقتصادية التي يتعامل معها، وبالخصوص الاتحاد الأوروبي.
5- مواصلة إنجاز أوراش تحسين نظام المرأة والأم والطفل بشكل يعزز من موقع المرأة واحترام كرامتها باعتبارها تعتبر محط انشغال خاص للعدالة، انطلاقا من واجب حمايتها من مختلف أشكال الميز والاعتداء والعنف كيفما كان، والذي تتعرض له باستمرار، وباعتبارها فاعلة خاصة في إنعاش العدالة الشريفة.
6- إصلاح عميق هيكلي وبنيوي وأخلاقي للمهن القريبة من القضاء كالمحاماة والتوثيق العدلي والعصري الذي يتعين التفكير في توحيدهما.
7- يتعين المراجعة الواسعة والعميقة للنظام الأساسي لرجال القضاء من أجل تقوية استقلال القضاء، وذلك في اتجاه إلغاء كل المساطر والإجراءات التي جرت العادة على استعمالها، والتي تترتب عنها قرارات إدارية ماسة باستقلال القضاة، كحق وزير العدل في نقل القضاة تحت ذريعة الإنابة وباستعمال التأثير والتهميش لقبول موافقتهم ومن أجل غايات مصلحة المهنة كيفما كانت مدة الانتداب، مع ضمان حصانة القاضي في البقاء في مكان تعيينه بمقتضى الظهير الملكي، حتى لا تبقى هذه الحصانة موضوع انتهاك مستمر، وتحت ذرائع مصطنعة.
8– تقوية مجال مسؤولية القاضي الشخصية والرفع المستمر من وعيه بدوره الدستوري واستحضار المردودية والجدوى،
9- من المفروض دراسة وإعادة تركيب وهيكلة الأنشطة الداخلية للمحاكم في أفق استغلال أقصى وأنجع للموارد المتوفرة، وتحسين أداء إدارة المحاكم وتحقيق التناغم بين مختلف مستويات الاختصاص ، انطلاقا من حجم المحكمة وعدد القضايا والملفات المعالجة بها.
10 – على وزارة العدل أن تبادر إلى إعادة تقييم وإعادة هيكلة الخريطة القضائية، وذلك بالأخذ بعين الاعتبار الرهانات والتحديات المرتبطة بمثل هذه التقويمات. هذا الإصلاح يجب أن يلامس من خلال النظر إليه كتمرين شمولي يدمج دراسة التكلفة والفائدة ورهانات المساطر واستحضار المردودية.
3- على المستوى المؤسساتي
1- من المفترض أن تتوفر وزارة العدل على دراسة مدققة ومتعمقة حول الحاجيات الحقيقية للمجتمع المغربي في مجال القضاء والعدل. و هي دراسة الجدوى التي ستمكن من التحكم أكثر في كل برامج الإصلاح وضبطها في الزمان والكلفة والمتطلبات، إذا لم تتوفر ، فيتعين التعجيل بها.
2- يجب الحفاظ على الإيقاع الحالي لعصرنة الإطار القانوني والتشريعي مع القيام بدراسة متعمقة حول الحاجيات الحقيقية للمجتمع المغربي.
3- سيكون من الضروري تقوية وتوسيع صلاحيات المجلس الأعلى للسلطة القضائية وإسناد السلطة التقريرية له ،
4- إتمام هرم القضاء الإداري بإحداث مجلس الدولة، خصوصا وأن الدستور مكن من الطعن في قرارات المجلس الأعلى للسلطة القضائية أمام أعلى هيئة قضائية إدارية.
5- دعم وتقوية المحاكم التجارية وإعادة النظر في اختصاصها بما يمكن من نجاعتها.
6- إعادة النظر في قضاء القرب لثبوت عدم فعاليته وملائمته وفق خريطة قضائية معقلنة تتناسب مع متطلبات الإصلاح العام.
7- يجب توفير المساعدة لضمان نشر واسع للأوامر والقرارات القضائية المنجزة من طرف سلطات قضائية أعلى درجة ومحاكم الاستئناف والمحاكم المختصة .
8- من المفروض دراسة وإعادة تركيب وهيكلة الأنشطة الداخلية للمحاكم في أفق استغلال أقصى وأنجع للموارد المتوفرة، وتحسين أداء إدارة المحاكم وتحقيق التناغم بين مختلف مستويات الاختصاص ، انطلاقا من حجم المحكمة وعدد القضايا والملفات المعالجة بها.
9- على المستويات الأدنى من المحاكم أن تكون ممثلة بشكل منصف في المجلس الأعلى للقضاء لضمان مشاركة أوسع وتقوية استقلالية القضاء.
10- إن شفافية معايير التعيين الأصلي والتعيينات المنتظرة للقضاة ستتعزز وتتقوى بالإعلان السنوي عن لائحة داخلية تبين المناصب القضائية الشاغرة من جهة والمرشحين لشغرها من جهة أخرى.
11- يجب إشراك الهيئة القضائية بشكل قوي في تدبير المسارات المهنية عن طريق مشاركة ممثلي جمعيات القضاة.
12- يجب الحرص على تنفيذ مبدإ منع تنقيل القضاة بشكل تعسفي وبدون رضاهم المسبق، ووضع مبادئ وقواعد تفرض الأقدمية القصوى للترشح لشغل منصب قضائي معين.
13- يجب تعزيز القدرات التدبيرية والتسييرية للمحاكم وتقريبها من المستفيدين النهائيين من خدماتها. ويجب تقوية دور رؤساء المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف، بشكل يسمح لهم بتحديد السياسة الاستثمارية واستغلال الموارد المتوفرة والمتاحة.
14- يجب على وزارة العدل أن تتوفر على إمكانيات خاصة بوضع استراتيجية تخطيط ملائمة بشكل يسمح بتبني سياسة توظيف تأخذ بعين الاعتبار التغييرات الطويلة الأمد، التي تمس الديمغرافية القضائية ومهام المحاكم وإصلاح المساطر. ويجب أن يكون من بين أولوياتها تدبير الملفات من طرف القضاة في مواجهة عدد القضايا المحالة على المحاكم ، والتي تعرف ارتفاعا مهولا.
15- يجب اتخاذ التدابير اللآزمة للاعتراف الكامل بوظيفة كاتب المحكمة وبكفاءته وبالمهام المسندة إليه. ويجب إحداث معهد خاص يؤمن التكوين الأساسي في هذا المجال والتكوين المستمر لكتاب المحاكم الممارسين. كما أن تنظيمهم في إطار هيئة مهنية أو في إطار مهنة حرة سيمكن من تدبير فعال لحالات التسوية أو التصفية أو التسيير القضائي .
16- يجب كذلك تحسين الإحصائيات المعيارية بشكل يؤدي إلى تبني سياسة فعالة وتحقيق انسجام في تقنيات تدبير الملفات.
17- إن تنظيم المصالح المختصة في تكنولوجيا الإعلام والتواصل بوزارة العدل أثبت نجاعته. لكن الرهان والتحدي القائم حاليا هو مضاعفة الجدد لتعزيز الأطر البشرية الكفأة في مجال الاعلاميات ، والحفاظ عليها حتى لا تستسلم للإغراءات المادية المرتفعة في القطاع الخاص.
18- يجب أن يتم تعميم حوسبة قطاع العدل ليشمل مجموع منظومة العدالة. وهذا يعني أن على وزارة العدل أن تحتفظ بالكفاءات في مجال الإعلاميات التي وضعت هذه المنظومة وأشرفت على صيانتها.
19- يجب أن يتم تعزيز التجهيزات وعصرنتها من خلال تخطيط محكم ودراسة وتقييم موضوعي للتكاليف والفائدة.
20- يجب أن تحظى منظومة التنفيذ بتعديلات عميقة.لا من حيث الموارد البشرية ولا من حيث الإجراءات. ويجب إعادة النظر في إجراءات التنفيذ بارتباطها بحاجيات وقيم المجتمع المغربي، في أفق البحث عن المسارات المربحة والمقبولة من أجل تنفيذ فعال لقرارات العدالة. وإن خلق اختصاص قضاة التنفيذ بكافة المحاكم التجارية والمحاكم الابتدائية سيساهم لا محالة في تسريع الإجراءات. فتكون لقضاة التنفيذ المختصين بذلك القدرات المهنية، والسلطات والمسؤوليات المطلوبة من أجل إقرار معايير فعالة للتنفيذ، مع ضرورة توضيح صلاحياتهم واختصاصاتهم القضائية.
21- يجب تعزيز وتطوير مهنة المفوضين القضائيين بوضع معايير دقيقة للتوظيف والتكوين. وخلق هيئة مهنية تتمتع بصلاحيات المراقبة الواسعة ووضع ميثاق أخلاقي للمهنة ومسؤولية مدنية جماعية.
22- يجب الرفع من عدد المفوضين القضائيين انطلاقا من أولويات الخريطة القضائية. ومن المستحسن إعادة النظر في مكافأتهم نحو الأفضل.لأن على العدالة أن تتوفر على رجال السلطة المختصين من أجل تسريع مساطر معالجة المقاولة.
23- التفكير في مجانية القضاء لضمان حق الولوج إلى القضاء. فعلى المستوى الجنائي، تعين المحاكم للمحامين من أجل تمثيل المتقاضين الضعفاء، وعلى المستوى المدني، لا تتوفر أحكام في هذا المجال، لأن عدد المستفيدين المحتملين كبيرا جدا. ولا نتوفر على دفاع عام. إن توكيل محامي أمر ضروري، إلا في حالات النفقة، إلا أن المواطنين، في غالب الأحيان، لا يستطيعون أداء مصاريف الدفاع والاستفادة من خدمات المحامين، ويتطلب الأمر كذلك وضع منظومة فعالة للمساعدة القضائية وصلبة من الناحية المادية في الوقت الراهن، فيجب الحرص مع ذلك على تسهيل ولوج المواطنين للعدالة من خلال النشر الواسع للمادة القانونية.
24- يجب الإسراع في تفعيل قانون التحكيم واتخاذ التدابير الملائمة من أجل تنفيذه. وخلق ظروف وأجواء ملائمة لنشر البدائل القضائية. كما يجب التحفيز على اعتماد الطرق الودية في فض النزاعات، إما بطلب من المحكمة أو بطلب من الأطراف المتنازعة. هذه الاحتمالات يجب دراستها وتقييمها بتأمل وتأتي في أفق تحديد مدى إمكانية إدماجها من أجل الجمع بين منظومات وأشكال حل النزاعات الرسمية والغير الرسمية.
4- على مستوى تخليق القضاء
إن تخليق القضاء يتطلب مقاربة شمولية مندمجة تهم كافة المتدخلين في العملية القضائية كيفما كان موقعهم من شرطة قضائية والإدارات المركزية للعدل ووزير العدل نفسه ومواقع الهيمنة والنفوذ، وكل المحيطين بالقضاء، لأن العدالة ليست قطاعا معزولا عن محيطه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بل هي نتاج فضائها ووسطها ومحيطها، والذي ينتج مختلف مستويات التأثير السلبي.
بجانب واجب العمل المستمر وطويل الأمد والنفس من أجل نشر القيم الإيجابية داخل جسم المجتمع، فإن المجهود من أجل محاربة الرشوة داخل القضاء والعدل يجب أن يكون ذا أولوية قصوى بجانب المجهود التربوي العائلي والمدرسي والتكويني العام والجامعي والتواصل ومحاربة الهشاشة وغير ذلك.
إن الصورة السلبية للعدل والقضاء في البلاد وعجزها عن رفع رهان المصداقية تجاه المتقاضين والملتجئين إلى الخدمات القضائية يجد صداه ومبرره في أوسع نطاق من كون القيم الفاسدة منتشرة في جسم العدالة الذي ينتجها بدوره داخل جسم المجتمع، كالتراخي واللامبالاة وضعف التكوين وغياب المعرفة وعدم وجود آليات التقييم والمراقبة الناجعين، وهو ما جعل موقع الفساد والرشوة أقوى في أغلب الأحيان من مواقع الإصلاح، ويصعب كشفه وإثباته ومواجهته.
إذا كانت العدالة ترغب في أن تلعب دورها كفاعل وحامل للتقدم وناشر لثقافة المسؤولية والشفافية وأخلاق المصلحة العامة، فإن عليها أن تنمي وأن تقوي في صفوف رجالاتها كل القيم التي تعزز السلوكات الأخلاقية والشفافة. ويجب أن تحتفظ لنفسها باستمرار على موقع الاعتبار كعامل للتخليق والرفع من روح المواطنة.
وحتى تعطى إدارة العدل لإرادة التغيير وديناميكية التخليق والشفافية معناه، فإنه يتعين إعطاء دفعة قوية وحاسمة من أجل حكامة جيدة، من الممكن أن تنطلق اليوم ناقلة واعدة ومبشرة بوضع تنظيم محكم وتشغيل يومي للمصالح الإدارية للقضاء والمحاكم، وتسيير جاد وفاعل لعلاقات الشغل والتقويم والمراقبة، وتعبئة الطاقات ونشر الإحساس بالمسؤولية وتحميلها وتثمين الكفاءات وتجميع الطاقات. وهو أمر متوقف على كيفية اختيار القضاة والمسؤولين في المقام الأول.
كما أنه رهين باتخاذ تدابير عملية وملموسة ، ومنها:
1- وضع قانون معزز بإجراءات جريئة ومسؤولة لمحاربة الرشوة والفساد وفتح المجال للتصدي لها أمام المواطنين والهيئات والرأي العام.
2- نشر موارد ميزانية قطاع العدل عبر شبكة الأنترنيت بموقع وزارة العدل، والحرص على معاقبة المرتشين بشكل صارم، مع ضرورة إخبار الرأي العام بفحوى المتابعات القضائية والتأديبية في مجال الرشوة القضائية. ويجب بالموازاة الرفع من الأجور القضائية وجعلها في مستوى الأجور القصوى المعتمدة بالإدارة العمومية.
3- يجب الحرص على تقوية الشفافية بالمفتشية العامة من خلال نشر تقاريرها مثلا، ودعوة المختصين في المجال القانوني والرأي العام للانخراط في الحوار من أجل توضيح معايير التوصيات. وعلى المفتشية العامة أن تقوم بنشر هذه التوجيهات وتحديد معايير واضحة ومدققة لتسيير الجهاز القضائي (السرعة – حجم الملفات – جودة القرارات – التقليص من المصاريف). هذه التوجيهات ستمكن من تحديد معايير واضحة للتقييم المنتظم للفعالية القضائية.
4- وفي نفس السياق، يجب تعزيز مبدإ احترام حق الدفاع في كل المتابعات التأديبية في حق رجال القضاء. وقد يترجم المبدأ عمليا في الحق في الحصول على كل وثائق الملف وعلى التقارير المرتبطة به، والتوفر على مساعدة، وتوفير مرافعة حضورية وجلسة عمومية، مع ضمان حق استئناف القرار المتخذ في حق المتهم.
5- يجب وضع قانون للأخلاقيات المهنية في مجال القضاء يحرره القضاة بالتعاون مع المختصين في المجال القانوني وممثلي هيئات المجتمع المدني (وهذا ما حصل مؤخرا، ويجب علينا تحيينه).
6- إن الإجراءات التأديبية ستتقوى شفافيتها ومصداقيتها وفعاليتها أكثر، إذا ما كانت الضمانات المقدمة للقضاة معززة أكثر، وذلك بتقليص هامش تحرك وزارة العدل في إطار تحريك الدعوى أو وقفها، أو تمكين القضاة من استئناف الحكم أو القرار التأديبي في حقهم. وهو ما يسمح به الدستور.
5- على المستوى التكويني
1- يجب تمكين الطواقم الادارية من تكوين مهني تقوم به مدارس مختصة. وعلى وزارة العدل العمل على خلق مدارس للتكوين المهني موجهة للعاملين بالمؤسسة القضائية، وعليها التكثيف في التكوين الحرفي والأخلاقي وأصول القضاء، ويجب تكوين رؤساء المحاكم في الإدارة والتدبير الخاص بالمحاكم بشروطها ومتطلباتها التدبيرية العصرية بجانب كفاءاتهم وتكوينهم في الصلاحيات الولائية والاستعجالية لمؤسسة رئيس المحكمة.
2- يجب القيام بجهد خاص من أجل دعم تنمية المنشورات القانونية. فعلى القضاة أن يكونوا “مسلحين” ب “حقيبة أدوات قانونية” تتضمن القوانين الأساسية والعديد من الوثائق المرتبطة بنشاطهم. وحقيبة الأدوات هاته من الممكن أن يتم إنجازها بسرعة و تحيين محتواها كلما اقتضت الضرورة ذلك.
3- إن الدراسات القانونية تحتاج إلى إعادة التشكيل بطريقة معمقة. مما يستوجب وضع مناهج دراسية ملائمة لكل مهنة وبشكل تدريجي.
4- إن برنامج التكوين الخاص بمختلف المهن القانونية في حاجة إلى مراجعة في أفق ضمان اكتساب قدرات مهنية. وعلى هذه الدروس والبرامج التكوينية أن تتضمن إجراءات تقييمية تتوخى إثبات وتأكيد نوعية وجودة المهنيين القانونيين. وعلى الهيئة التمثيلية المهنية أن تشرف بشكل دقيق على مناهج التكوين، وأن تمارس رقابة مهنية قصوى في هذا المجال.
5- يجب أن تسند مراقبة الأعوان القضائيين للهيئة القضائية المهنية، والتي عليها أن تخضع من جهتها لتكوين ملائم من أجل القيام بمهمة المراقبة على أحسن وجه.
6- يجب أن يتم ولوج المهنة عن طريق مباراة أكثر انتقائية، وأن يتضمن متابعة للتكوين المهني واكتساب كفاءات عملية، وتكوينا في أخلاقيات المهنة. وعلى الراغبين في ولوج المهنة أن يخضعوا لتقييم من طرف جهاز مهني مستقل. كما يرجى تركيز أنشطة المحامين حول الاستشارة القانونية، وبذل الجهد من أجل توقع وتفادي عبث الخلافات من اللآزم كذلك تعزيز سلطات الهيئات المهنية في أفق تحسين التكوين والحماية والتأديب المهنيين لأعضاء الهيئة.
7- على القضاة المتدربين أن يتوفروا على قدرات تكوينية ملائمة في الجوانب القانونية باللغتين المعتمدتين. وعلى هذه القدرات المهنية أن تعزز بلائحة معايير التعيين والترقية.
8- يجب تمكين الطواقم الادارية من تكوين مهني تقوم به مدارس مختصة.
– IV-
خــــاتمة
وأخيرا، لا بد أن نسجل مدى إيجابية المقاربة الإدماجية والتشاركية التي اختارتها وزارة العدل لتفعيل الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة في أفق بلورة ميثاق وطني ومدى رغبتها في مساهمة جميع الفعاليات في تحسيس ودعم المحيط القضائي بتنفيذ خيارات هذا الميثاق الوطني بشراكة مع الفاعلين في القطاع.
كما لا يسعنا إلا أن نعبر عن موقفنا الإيجابي والمدعم للأهداف العامة لخطة الإصلاح التي نراها ضرورية، والتي نرى أنها سياسية في عمقها، وتتطلب الإرادة السياسية الكاملة لإنجازها ضمن المنجزات المستعجلة للإنتقال الديمقراطي، وما مساهمتنا هاته بإبداء الرأي إلا تعبير عن رغبتنا في دعم هذا المخطط الإصلاحي والشمولي وتعزيز المؤسسات لبناء دولة القانون.
وتبقى مساهمتنا رغم ذلك متواضعة أمام ضخامة المشروع وتعقده وارتباطه بالإشكاليات الصعبة للمجتمع، وهو في حد ذاته تحدي لا بد للجيل الجديد أن يرفعه بكل جرأة وتفاؤل وأمل في المستقبل، لأنه امتداد لتراث كبير في ذاكرة المغرب والمغاربة .
هذه الذاكرة بحمولتنا العظيمة لا يمكن إلا أن تفتح الطريق وأن تتفتق نحو مستقل آمن وواعد.
لتحميل المذكرة بصيغة PDF
أضف تعليقاً