انبعاث مدينة: بين الحلم والإخفاق
على هامش الذكرى 60 لزلزال أكادير
انبعاث مدينة: بين الحلم والإخفاق
عبد اللطيف أعمو
لم يكن مشاهدو فيلم الرعب “كودزيلا” Godzilla – الذي كانت سينما سلام تعرضه ليلة الثاني من رمضان الموافق ل 29 فبراير 1960- يتوقعون، وهم يغادرون القاعة، قرابة منتصف الليل، أن يشهدوا رعبا حقيقيا تلك الليلة.
أقل من عشرين ثانية كانت كافية لتدمير ما لا يقل عن 80 % من مدينة أكادير، بفعل زلزال بلغت قوته 5.7 درجة بمقياس ريشتر، أسفرت عن هلاك أكثر من ثلث سكان المدينة، حيث قدرت الخسائر ب 15 إلى 20 ألف وفاة و 25 ألف جريح، من أصل 35.000 نسمة.
إنه الزلزال الأكثر دموية في تاريخ المغرب، حيث تم تدمير الأحياء القريبة من الجبل بالكامل، فيما تضرر الميناء والقاعدة البحرية قليلاً، فاستخدمت فيما بعد كملجأ للناجين.
وبعد وقع الفاجعة، وعمليات الإنقاذ وإعادة توطين الناجين وتجاوز آثار الصدمة وآلامها، (الإيواء المؤقت، التعويض، الإصلاحات، الهدم، المشاكل العقارية، تنظيم إعادة الإعمار) وبعد الاطلاع على تقارير إدارة تخطيط المدن عن مختلف المشكلات التي يتعين حلها، تقرر إعادة بناء أكادير في اتجاه الجنوب، حيث وضع المغفور له الملك محمد الخامس الحجر الأول في موقع البناء في 30 يونيو 1960. وعهد إلى ولي العهد آنذاك الأمير مولاي الحسن بقيادة عملية إعادة البناء.
فصدرت عدة ظهائر وقوانين وقرارات خاصة بإعادة إعمار أكادير، وتأطيرها، ومن ضمنها:
- ظهير رقم 1.60.165 الصادر في 29 يونيو 1960 بإحداث مندوبية سامية لإعادة بناء أكادير.
- ظهير رقم 1.60.123 بإحداث ضريبة التضامن الوطني
- ظهير رقم 1.60.347 الصادر في 29 رجب 1380 الموافق 17 يناير 1961 بتحديد مسطرة خاصة لنزع ملكية الأراضي اللازمة لإعادة بناء مدينة أكادير،
- ظهير رقم 1.60.290 تحدد بموجبه منطقة مدينة أكادير المحدثة داخلها لدواعي الأمن حرمات فيما يخص العقارات المبنية والغير المبنية،
- ظهير رقم 1.61.259 في تخويل المندوب السامي لإعادة بناء أكادير سلطات جديدة وفي تحديد الكيفيات الخصوصية لتطبيق بعض الإجراءات،
- ظهير رقم 1.60.358 المؤرخ في 17 يناير 1961 بشأن الشروط المخولة بموجبها إعانة لمنكوبي زلزال أكادير
- ظهير رقم 1.62.329 الصادر بتاريخ 6 فبراير 1963 الذي يعفى بموجبه من حقوق التنبر الوثائق الخاصة بإعادة إعمار مدينة أكادير،
- ظهير رقم 1.61.259 الصادر في 21 أكتوبر 1961 في تخويل المندوب السامي لإعادة بناء أكادير سلطات جديدة وفي تحديد الكيفيات الخصوصية لتطبيق بعض الاجراءات،
- القرار رقم 001.61 الصادر في 17 يناير 1961 بتحديد كيفيات تطبيق الجزء الثاني من الظهير الشريف الصادر في 29 رجب 1380 الموافق 17 يناير 1961 بشأن شروط منح إعانة لمنكوبي زلزال أكادير فيما يخص مساعدة الدولة المالية ودراسة التصريحات بالنكبة.
وبعد 60 سنة من الزلزال، أضحت أكادير قطبا جهويا يقطنه أزيد من 400 ألف نسمة، ويتجاوز العدد المليون نسمة عند إضافة سكان أكادير الكبير. وهي اليوم ثاني مدينة سياحية في المغرب، تشتهر بكيلومترات من الشواطئ المشمسة، وباعتدال مناخها.
وإلى جانب أهمية السياحة، فقد أصبحت مركزا صناعيا وميناء هاما، كما وطنت العديد من مصانع تحويل المنتوجات الفلاحية ومنتجات البحر، والتي توفر حصة كبيرة من الصادرات المغربية. هذا الميناء هو أيضًا منفذ طبيعي لسهل سوس الخصب، الذي يحتل المرتبة الأولى في إنتاج وتصدير الحمضيات.
لكن يحق لنا التساؤل: هل هذه الصورة الحضرية التي تعكسها مدينة أكادير اليوم تشكل نموذجا لمدينة متوازنة ومنسجمة؟ وهل تحقق حلم الإعمار؟
في البدء كان الانسجام البشري
كانت أكادير حينها مكونة من ثلاثة أجزاء رئيسية: في الغرب: حي أنزا، وهي إحدى الضواحي الصناعية بجانب حي فونتي، الذي يعتبر أقدم حي بالمدينة، يسكنه بشكل رئيسي الصيادون ؛ وفي أعلى الجبل تتربع القصبة، وفي الوسط هضبة تلبورجت، وهي المدينة المغربية الجديدة؛ وإلى الشرق، المدينة الأوروبية الحديثة أو المدينة الجديدة.
وكانت أكادير عبارة عن تجمع سكني لقبائل سوس بكاملها، في انسجام تام مع الطائفة اليهودية وفي وئام مع الأوروبيين: فكانت نموذجا للتسامح والتعايش. ولم تكن لهذه المدينة معالم تاريخية بالمفهوم العتيق، ولكن غناها كان بطاقاتها البشرية، التي شكلت النواة الصلبة القوية لصنع الهوية الحضرية المعتمدة على العنصر البشري.
في الأصل كان الرمز إلى العزيمة والإرادة
هذا العزم والإصرار على استعادة الحياة وتخليدها، تجسده وترمز إليه مقولة المغفور له جلالة الملك محمد الخامس، والمنقوشة على حائط الذكرى أمام بناية البلدية:
“لئن حكمت الأقدار بخراب أكادير، فإن بناءها موكول إلى إرادتنا وإيماننا”
فالتأمت كل الإرادات الحسنة، من التحام الساكنة وإيمانها، ومن قوة التضامن الوطني (ضريبة التضامن على السكر…) والتعاون الدولي (مؤسسة إعادة إعمار أكادير، جهات خارجية داعمة … )، فكان الحلم والعزم، مولَّدا لانبعاث مدينة.
فتم إنشاء وتأسيس المفوضية العليا لإعادة إعمار أكادير (HCR)، لبدء أشغال إعادة الإعمار. وتحت إشراف الراحل الحسن الثاني وموظفي المفوضية العليا لإعادة إعمار أكادير (HCR)، تم وضع خطة لتهئية المدينة الجديدة بعد ستة أشهر من الزلزال.
وترأس قسم التخطيط الحضري المهندس المعماري المغربي السيد مراد بن إمبارك رحمه الله، بتعاون مع مخططي المدن والمهندسين المعماريين الأجانب، الذين اختاروا إعادة بناء المدينة في اتجاه الجنوبً من خلال تبني تخطيط عصري للمدينة.
فشيدت أكادير على شكل حذوة حصان fer à cheval انطلاقا من الميناء، وباعتماد محور مهيكل يتمثل في شارع ليوطي، الذي أصبح يحمل اسم شارع الكتاني لاحقا.
فمعظم المهندسين المعماريين الذين شاركوا في إعادة إعمار أكادير هم في الغالب من الحركة الحداثية في الهندسة المعمارية والتعمير، وقد لقبوا لذلك بـ “مهندسي الانفصال”“architectes de la rupture”.
فتزامنت تلك الفترة مع الحركة المعمارية الحديثة بقيادة المهندس المعماري من أصل سويسري لوكوربوزييه Lecorbusier. وبالتالي، أختير موقع أكادير كمجال مثالي لتجسيد هذه العمارة الحديثة التي ترمز إلى تخطيط المدن الوظيفية.
فوظفت، زمن إعادة بناء أكادير نخبة من بين أفضل طلاب الفنون الجميلة والهندسة المعمارية في باريس، ثم قام ميشال إيكوشار Michel Écochard في الرباط بتجنيد مجموعة من المهندسين المعماريين الشباب في هذه الحركة، ومن ضمنهم: زيفاكو Zevaco، أزاجوري Azagury ، ريو Rioux ، فراوي Faraoui، دي مازيير De Mazières ، تستمان Tastemain … وتمثل إعادة إعمار أكادير مدرسة معمارية ، تزعمها مهندسون دعوا إلى “كسر” طوعي وفك الارتباط وقتها مع النمط المعماري السابق، لتعزيز حماسة التقدم كمحرك للعصر.
ويمكن القول أن أكادير في معمار ما بعد الزلزال جمعت مهندسين مبدعين ورواد مرموقين، تركوا نماذج لمباني، هي في طريقها لتصبح تراثا معماريا متميزا، لو أحسن توظيفها وتسويقها، كما هو الحال بالنسبة للبناية A، وهو مبنى يعتبره المتخصصون تحفة معمارية، بجانب مبنى المطافئ، وقصر البلدية وبناية البريد، والسوق المقبب، … وغيرها.
فبرزت ثلاث مراحل رئيسية في عملية إعادة تهيئة المدينة. أولاها، التي كانت تدير أشغالها المفوضية العليا لإعادة إعمار أكادير (HCR)، تمتد من 1960 إلى 1972. وخلال هذه السنوات، كانت الأحياء الرئيسية المبنية وسط المدينة هي، حي السويسي cité suisse، الحي الإداري والمنطقة السياحية zone balnéaire، وتالبورجت الجديدة والباطوار (امتداد حي x) . ثم رأت النور الأحياء الأخرى في مرحلة لاحقة، كحي إحشاش وحي ودادية الموظفين وحي النهضة بين سنوات 1972 و 1982.
هذه المرحلة، تميزت بتدخل بلدية المدينة وتمثيلية وزارة الإسكان. ثم تسلمت المشعل فيما بعد مؤسسة العمران ERAC-Sud في سنة 1982. وفي هذه المرحلة، عرفت هوامش المدينة تطورا حضريا يغيب فيه الاتساق والربط العضوي، وتوسع المجال الحضري. وفي هذه المرحلة كذلك ظهرت بؤر السكن الغير اللآئق وأحياء القصدير أيضا، كما برزت عدة مناطق تتضمن تجمعات سكنية غير صحية.
أما المرحلة الثالثة لما بعد 1982، والتي يمكن تعريفها بمرحلة الاستبداد، فقد تميزت بتجزئة الأراضي وتقسيمها بدون منظور معماري يستحضر خصوصية المدينة وأهداف ميثاق إعادة إعمارها، الذي وضعت أسسه إثر الزلزال المدمر.
وهي مرحلة تحكمت فيها إرادة أشخاص بعيدا عن كل تخطيط ممنهج، ووضع خلالها جانبا اعتبار الإنسان وحاجياته في النمو الحضري المندمج، وأفرغت دلالات ورمزية إعادة الإعمار من كل المعايير الضامنة للتنمية الشمولية في نطاق فلسفة التعمير وإعداد التراب وأهدافها، كقاطرة لبناء مشروع حضري تنموي وحديث.
وما زالت ذاكرة مدينة الانبعاث تحتفظ بعدد من الأسماء التي حرفت مسار إعمار المدينة، ورسمت له مسارا آخر خارج الإطار الذي وضعته مؤسسة إعادة الإعمار منذ بداية الستينات.
وهي المرحلة التي ظهر فيها حي الداخلة بتشوهاته، بجانب عدد من الأحياء الأخرى، التي بنيت كلها بقوالب جاهزة وفاقدة لكل تصور جمالي ولكل تعبير رمزي معماري وفاقدة لكل هوية . يصعب معها تصنيفها ضمن الهويات الهندسية الدولية أو الوطنية بوجه الخصوص.
ثم جاءت مرحلة ما يسمى بالسكن الاجتماعي أو الاقتصادي لتتحول المدينة إلى سوق عقارية مفتوحة بدون رقيب أو مخطط، يقودها المنعشون العقاريون العموميون والخواص.
في المبتغى يكون الإصرار على تصحيح المسار
بعد مرور 60 سنة عن الزلزال المدمر للمدينة، أصبح مطلوبا من مدينة الانبعاث أن تقدم اليوم صورة لمدينة حديثة ومتألقة، ووجها لقطب جهوي نشيط، بمقياس الطموح الملكي الوارد في خطاب 21 مارس 1985، والذي يريد أن يجعل من أكادير مركزا من مراكز انطلاقة ثقافية وروحية وعمرانية وصناعية نحو أقاليمنا الصحراوية.
لكن يحق لنا التساؤل اليوم: هل هذه الصورة الحضرية التي تعكسها مدينة أكادير اليوم تشكل نموذجا لمدينة متوازنة ومنسجمة؟
إن كل مشروع “انبعاث” لا يمكن أن ينبني إلا على إعادة بناء الذاكرة. ويحق التساؤل: لماذا يجب الحفاظ على الذاكرة الجماعية، وعلى هذه العمارة المتميزة؟
وأول ما يتبادر إلى الذهن هو حالة المنكوبين جماعة وأفرادا، بالنظر إلى حالتهم المعيشية ووضعهم المادي، وإنصافهم في استعادة أملاكهم المدمرة، باعتبارهم شهودا لتاريخ زلزال المدينة، وغالبيتهم يقطنون اليوم بحي تالبورجت والبطوار.
ولا أبالغ إذا قلت بأنهم ما زالوا، بعد أزيد من نصف قرن من الزلزال، ينتظرون إنصافهم ومساعدتهم على تحقيق مواطنتهم كضحايا وكناجين من الزلزال. فهل هناك من يخاطب جمعياتهم؟ أو من يفتح باب الحوار معهم؟ أو من يدون ذاكرتهم وينصف حالهم؟
أما أكادير كمعلمة معمارية حديثة، بقيمتها الجمالية والهندسية، فيجب أن تكون بناياتها وساحاتها المحدثة في عهد المندوبية السامية لإعادة الإعمار محمية ومثمنة، باعتبارها تمثل صورة وطموح المدينة. فهي جزء من التراث الحضري لسببين:
- أن هذه البنايات استثنائية، تحمل رسالة اجتماعية وإنسانية وطموحا مغربيا كبيرا، وترمز في ذات الوقت إلى التحدي ومواجهة القدر بقوة وثبات.
- إنها ترمز إلى تيار وإلى مدرسة من تيارات الإبداع الهندسي المتميز، وتحكي جزءا من تاريخ المغرب الحديث. وعلى الجهات المسؤولة تثمينها، وحمايتها وخلق مسارات للتعريف بها.
وبالتالي، فإن على السلطات العمومية واجب الحفاظ على هذه الذاكرة، كمرجع تاريخي ومجالي وثقافي يميز هذه المدينة، ويحقق تميزها بين باقي المدن.
لكن للأسف، هذه المباني مهملة، وغالبًا ما يتم تشويهها. ويُظهر مثال مكتب البريد للمهندس Zevaco عدم الاهتمام بهذه الهندسة المعمارية، وما آلت إليه بناية المحكمة الإدارية، وبناية السوق المقبب، … مما أدى إلى بتر وتشويه جزء من تاريخ وذاكرة المدينة و المغرب المعاصر.
أما الأحياء المبنية مع انطلاق مشروع إعادة إعمار أكادير (حي تالبورجت والحي الإداري وشوارعه وامتداده على حي الليمون وساحة البلدية، التي تعتبر القلب النابض لمشروع الانبعاث، ويرمز إلى حمولته الرمزية والتاريخية والتراثية والحضارية، فهي أحياء معرضة للإهمال، وعرفت تدهورا كبيرا يرثى له ، ويبكي على أطلاله كل من عرفوا أكادير خلال عقدي الستينات والسبعينات.
فبعيدًا عن التراث المعماري الأصيل لفاس ولمراكش والصويرة وتارودانت وتيزنيت وغيرها من المدن العتيقة، تقدم أكادير خطوطًا حديثة في التشكيل والمعمار، قد تبدو خيارا معماريا جريئًا، لكن قراءة هذه الخطوط، ستمكن من رؤية روح المدينة المنبعثة من دمار وخراب .
كما أن عدم التحكم في الانفجار السكاني، والأخطاء المتعاقبة في توجيه النمو الحضري منذ أواسط السبعينات، أدى إلى إخفاء الهوية الحديثة لأكادير… دون بروز أخرى أكثر انسيابية واتساقا.
ولكي يحيي المركز الحضري الجديد في تالبورجت وغيرها من أحياء المدينة الحية الحماس والأمل في العودة إلى الوئام الحضري … لا بد من استحضار روح انبعاث أكادير كتحدي وكتطلع للمستقبل.
إن من الضروري الحفاظ على عناصر الوحدة البشرية، وجعل الرابط البنيوي المهيكل هو الميناء والربط العضوي لمختلف الأحياء المحيطة بالمركز مع باقي فضاءات المدينة.
وهذا الابنعاث سيكون على مستوى بناء الإنسان، الذي ساهمت العديد من المنظمات والهيئات والمؤسسات في بناء أسسه مباشرة بعد الزلزال: اجتماعيا وإنسانيا من خلال تبني الأطفال اليتامى وإنجاز دراسات للحفاظ على بنيات الأحياء القابلة للحياة، وغير القابلة للحياة (تلبرجت القديمة، حي فونتي، أكادير أوفلا…) ثم بناء الذاكرة بإنعاش الرمزية، ومن أهمها الشعار المواجه لمدخل قصر البلدية.
لنتساءل جميعا: هل نحن حقا أوفياء لنداء جلالة المغفور له محمد الخامس؟
- فالأحياء الغير قابلة للحياة منذ بداية الستينات، والتي ابتلعتها الأرض، ظلت مهجورة بعد 60 سنة من الزلزال ، وهي اليوم عبارة عن مزابل ومدافن للقمامة، بما فيها قصبة اكادير أوفلا. وكان أحرى بنا أن نطوع هذه المواقع ونهيئها، لكي تكون أماكن للذكرى وللذاكرة الحية، وتظل محافظة على شرارة إعادة الإعمار، كرمز قار ومستمر ومتقد في نفوس الأكاديريين … من خلال تهيئة فضاءات خضراء وحدائق ومنتزهات موضوعاتية ووضع رسوم ونماذج ومجسدات مصغرةmaquettes miniatures لما خرب من معالم ومآثر معمارية تؤرخ لذاكرة المدينة وتليق بمركز القطب السياحي الوطني.
- لقد خلقت المفوضية العليا لإعادة إعمار أكادير (HCR) وأبدعت مدرسة جديدة ترتكز على نظام البناء المقاوم للزلازل، وتعتمد على وحدات وأشكال متماسكة ومنسجمة وغير قابلة للتجزئة. فكانت الانطلاقة قوية جدا ترمز إلى الذاكرة والإصرار والتحدي والطموح. لكننا فيما بعد ورثنا مدينة مشتتة دون رابط عضوي قوي ودون خيط جامع: فالعمارة الحضرية تعاني، وتترجم شعورا بعدم التجانس … مع تطور فوضوي ومتأخر، صاحب ورافق نموا ديموغرافيا غير متحكم فيه، صاحبه سباق مهووس نحو المضاربة العقارية الحادة والمضرة بالنسق المعماري وبالتجانس العام.
- فمن العوامل المؤثرة، والتي شوشت على الطابع المعماري المنفرد للمدينة، أننا اليوم أمام مدينة لا وحدة في مكوناتها، ولا معنى لطموحها الحضري، فيما المباني الموروثة عن حقبة إعادة الإعمار لم يتم الحفاظ عليها بشكل جيد ومقبول، بل تتعرض المباني النادرة، وساحاتها وأزقتها التي ما زالت موجودة، من حقبة الستينات والسبعينات، للنهب والتهميش.
صحيح أن أكادير تطورت، من بلدة ساحلية صغيرة وهادئة، لتصبح قطبا جهويا وحضريا، تحوم حوله مناطق حضرية تابعة لأكادير الكبير ، تضم أزيد من مليون نسمة.
فامتدادها وتوسعها الحالي يوحي بأن هذه المدينة لم تعد قادرة على التمحور حول مركز حضري واحد، ولكن في شبكة من الفضاءات وحول تعدد المراكز والمحاور، وخلق أقطاب حضرية متعددة الوظائف.
ويبدو، بعد مضي 60 سنة من رفع تحدي انبعاث المدينة، أن مركز تالبورجت كمركز حضري centre urbain هو فقط الأقرب نسبيا إلى تحقيق هذا الطموح، ويمكن القول أن ذلك تم بمبادرة خاصة منفردة، خارج السياق العام لأكادير الكبير، ودون أي رؤية متجانسة مع باقي مكونات القطب الحضري في أوسع تجلياته …
لقد كانت أكادير، بعد الزلزال، مهيئة على مستوى الهندسة المعمارية والتعمير وإعداد التراب، لتحقق تمفصلا حول محاور متقاطعة ومتكاملة بشكل عضوي، يؤمن الرمزية التي تشير إليها أكادير كوجهة سياحية وتاريخية وتراثية، متطلعة للمستقبل ومتعطشة للتقدم وللحداثة، مع تموقع ساكنتها في حدود 500 ألف نسمة، بعيدا عن طموحات المدينة العاصمة métropole .
هذا التصور كان يعتمد على خلق فراغات قابلة للحياة والتوظيف، بزرع مناطق خضراء وحدائق ومنتزهات بين فضاءات وأحياء قابلة للحياة وأخرى غير قابلة للإعمار، لكننا خلقنا في الأخير وحدات منعزلة عن بعضها البعض، وغير متميزة بسيولة وانسيابية fluidité التنقل وسهولته .
لكن، تقييم الوضع الحالي يشير إلى:
- أن الأحياء الميتة، التي كان من المفروض تهيئتها على شكل منتزهات وحدائق ظلت أراضي جرداء، توحي بالبؤس بدل الإيحاء بالأمل الذي تحمله وترمز إليه القولة المأثورة لجلالة المغفور له محمد الخامس.
- أن الرابط العضوي بين مختلف فضاءات ومجالات أكادير الكبير شبه منعدمة وغير فعالة،
- أن ما بني في عهد المفوضية العليا لإعادة إعمار أكادير (HCR) توقف في سنة 1975، وتعرض للاندثار الممنهج وللتهميش، ولم يعد يهتم به أحد،
- أن العشوائية تطغى على الخيارات في مجال التعمير وإعداد التراب، مع تعدد المتدخلين وعدم الارتكاز على الالتقائية في تحديد الأولويات،
إن ما حصل من تراجع في مشروع انبعاث أكادير، ثم إجهاضه ابتداء من سنة 1975 من طرف الدولة أولا، والتي تتحمل قسطا هاما من المسؤولية في تراجع المؤشرات الوظيفية والمجالية والجمالية للمدينة كرمز للإنبعاث الحقيقي.
كما يرجع إلى انعدام رؤية واضحة وقوية، وعدم اعتماد ميثاق إعادة الإعمار كما وضع منذ الستينات. مما يجعل المدينة تنزلق تدريجيا من مشروع انبعاث متحكم في تطوره ونموه، إلى مشروع مدينة ميتروبول métropole لا هدف لها ولا روح ولا تحمل أي مشروع معماري واضح، يترجم روح المدينة القائم على الانفتاح والتسامح والتعايش والانسجام البشري.
ومع ذلك، لا يزال الأمل قائما في بناء نسق معماري ملائم ومنسجم للمشهد الحضري لأكادير، من خلال الابتعاد عن الأداء غير المتجانس وفتح حوار مدني بناء ومثمر بين المدينة ومهندسيها وفاعليها ومواطنيها… حول أي مدينة نريد، حاضرا ومستقبلا…
لأن أكادير تستحق الأفضل، فجلالة المغفور له الحسن الثاني أشار إلى طموحها في خطابه بمناسبة تدشين سد عبد المومن في 10 مارس 1985 ، بأنها مدعوة، بحكم مكانتها من الناحية الصناعية، وبحكم تواجدها في قلب المغرب، الذي أضاف باسترجاع أقاليمه الصحراوية، الثلث أو أكثر من الثلث، إلى مساحته الإجمالية، إلى أن تصبح عاصمة إنتاج الجنوب اقتصاديا وصناعيا، على غرار الدار البيضاء شمال غرب المملكة.
كما استحضر جلالته في خطاب 21 مارس 1985 بأكادير طهارة ونقاوة أهل سوس وأناقتهم الفكرية والجسدية، التي عليها أن تنعكس على البنيان والمعمار، الذي هو مرآة لنا.
فهل نحن قادرون على تحقيق تلك القفزة المشرفة لأكادير، التي أشار إليها جلالته في خطابه التاريخي ؟ وهل نحن قادرون على خلق مزيد من الجمال والأناقة والتوسع حتى نكون في مستوى هذا الطموح ؟
إن إعادة الأمور إلى نصابها، ووضع التأهيل الحضري لمدينة الانبعاث في سكته الصحيحة رهين بإرادة وإيمان الجيل الجديد من الشباب، الذي يتعين عليه رفع مشعل الانبعاث في مختلف المجالات بهمة وإرادة قوية، حتى لا ينفلت مستقبل أكادير الكبير من بين يديه.
للإطلاع على نص المقال بصيغة PDF
انبعاث مدينة: بين الحلم والإخفاق
أضف تعليقاً