زلزال أكادير من مفهوم الذاكرة: الذاكرة في مسار التنمية
زلزال أكادير من مفهوم الذاكرة
الذاكرة في مسار التنمية
نبض الذاكرة يسائلنا عندما نستحضر هول زلزال أكادير، وما أحدثه من خراب وتدمير للمعمار والإنسان، ويجعلنا نتمسك بالمجهود الجبار الذي بذل من أجل انبعاث المدينة من جديد، كبريق أمل وكعربون وفاء لنداء المرحوم جلالة الملك محمد الخامس الذي عبر عن عزيمة المغاربة في تحدي الأقدار، وإرادتهم وإيمانهم بتحويل الخراب إلى بناء .
هذا المفهوم العميق لمعاني الوفاء والاعتماد على الذاكرة يتزامن مع التحولات العميقة التي عرفها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، بانطلاق نهضة فكرية وفلسفية تستنير بفلسفة الأنوار، من خلال انتشار المفاهيم الوجودية وبلورة عصر ما بعد الحداثة.
هذه الحركة الحداثية التي برزت في الهندسة المعمارية والتعمير، والتي لقبت بـ “هندسة الانفصال”، والمتزامنة مع الحركة المعمارية الحديثة، بقيادة المهندس المعماري من أصل سويسري لوكوربوزييه Lecorbusier، فجندت مجموعة من المهندسين المعماريين الشباب، وانخرط فيها طلبة المعاهد ومدارس الفنون الجميلة في أوروبا، والتي تخرج منها عدد كبير من المهندسين المغاربة، الذين التحقوا بدورهم بورش إعادة إعمار مدينة الانبعاث.
فكانت فرصة فتح ورش إعادة إعمار أكادير فرصة مثالية لانطلاق تنزيل مفهوم المدن الوظيفية، ليوظف المعمار والبناء كفضاء وكأداة للتقدم والتربية على الذوق السليم وعلى الجمالية وخلق الانسجام المجتمعي وتفجير الطاقات ونشر مبادئ التسامح والتقاسم والتعايش، لكون المعمار، بجانب دوره التاريخي في رسم الحضارات، يشكل فعلا أساسيا وجوهريا لبناء مدن القيم وتوفير سبل تطويرها وتجديدها بشكل منسجم ومستدام.
فكانت فرصة إعادة إعمار أكادير هي الفضاء الأنسب لجعل الضوء والخضرة (verdure) والماء والهواء عناصر حيوية تنفذ إلى قلب البنايات، وتندمج مع الخرسانة والإسمنت العاري، بجانب الحجر الصلب الطبيعي، لتحدي الزلازل وفتح أفق التعايش والتساكن.
فانطلقت تجربة المفوضية العليا لإعادة إعمار أكادير (HCR)، كمؤسسة بيرقراطية يتفاعل داخلها المهندس المعماري والجيولوجي والمهندس الطبوغرافي، والمقاول القوي، بجانب المؤرخ وعالم الاجتماع، … وغيرهم، فكانت تجربة رائعة دامت ما يقرب من سبع سنوات، أنتجت نماذج معمارية خلاقة، لا مثيل لها حتى اليوم، وهي شاهدة على نفسها في فضاء مدينة أكادير، التي أصبحت متحفا معماريا مفتوحا، تجسده بنايات عديدة، كما هو الحال بالنسبة للبناية A، وهو مبنى يعتبره المتخصصون تحفة معمارية فريدة، بجانب مبنى المطافئ، وقصر البلدية وبناية البريد، والسوق المقبب، … وغيرها.
فالمنطلق الفكري كان في الأصل جعل أكادير مهدا لحركة معمارية رائدة في التعامل مع الأحجام وتوظيفها بجمالية وبفكر عملي ووظيفي، وكان كذلك فرصة لخلق مدرسة معمارية، انطلقت من أكادير، واكتسحت بلدان أخرى كثيرة، وما زالت نماذجها تشع عبر العالم، في أوروبا واليابان… وغيرها
إلا أن قوة وإرادة التسلط سطت على هذه التحف المعمارية، فأردتها مشوهة وفاقدة لبصمتها الأصلية الأصيلة، بإهمال صيانتها والحد من تأثيرها في تدبير المجال ووضع مخططات التهيئة وتصاميم البناء وضوابطه، حتى أصبحت المدينة، وما حولها، فضاء بدون روح ومرتعا للعشوائية بامتياز.
لذلك، فالاشتغال على الذاكرة هو إرجاع الأمور إلى سكتها الصحيحة. والسؤال المطروح اليوم هو هل منتخبو أكادير قادرون على إعادة الوهج المعماري للمدينة؟ وهل هم واعون بوزن وحمولة هذا التراث، الذي يتلاشى يوما عن يوم، ويفقد طابعه الأصيل؟ وهل هم قادرون على إنقاذ مدينة الانبعاث من مظاهر التشويه التي تطالها منذ مدة؟
فتطور المعرفة وتأثير العولمة، وغيرها من مظاهر الانفتاح والحداثة تفرض علينا أن نندمج، بمقوماتنا الذاتية الأصيلة، في عالم المعرفة و”المدن الذكية”، باعتماد الانفتاح على الذوق والجمالية.
ونحن اليوم نلاحظ، للأسف، مسارا عكسيا، يركز على الرداءة وتشويه كل ما هو جميل، ويعتمد الانغلاق الفردي والجماعي والانعزال وحجب كل ما هو جميل بشكل مخيف.(والمظاهر على ذلك كثيرة ومتعددة).
ولو كانت لدينا ذاكرة حية وحيوية، يترجمها معمار محفز على الخلق والإبداع، والتربية على الجمالية والتهذيب على الذوق السليم، والاشتغال على الفن الراقي، لكان حالنا اليوم أفضل بكثير.
فالتخطيط المعماري، المؤسس على مقاربة سياسية خلاقة ومنفتحة، هو الذي يخلق الحضارة ويوفر الديمومة وإمكانية السلم والترقي والازدهار.
صحيح أن المبادرة الملكية الأخيرة، والخطاب الملكي بمناسبة الذكرى الـ 44 للمسيرة الخضراء والممهد لإقلاع اقتصادي تاريخي بجهة سوس ماسة، بالتنبيه إلى أن مدينة أكادير أصبحت في موقع مركزي داخل التراب الوطني، وأصبحت لديها وظائف وطنية مركزية في عدد من الجوانب التنموية. مما يفرض توفير كل الضمانات للمشروع الذي دعا إليه صاحب الجلالة، والذي يوجد في قلب المشروع الجهوي لسوس ماسة، وتحتل فيه الثقافة والذاكرة مركزا رئيسيا، سواء من خلال المشاريع التي انطلقت، وكانت موضوع توقيع اتفاقيات في شهر فبراير الماضي أمام صاحب الجلالة، أو باقي المشاريع ذات الطابع الاستثماري والتأهيلي، التي ستتلوها، والتي ستجعل أكادير تسترد ذاكرتها ومكانتها، بجانب باقي أقاليم الجهة، وتتبوأ المكانة الرائدة اللآئقة بها في مجال التنمية والمساهمة الحيوية في بناء الوطن.
فضاء لانتعاش الذاكرة
لكننا، هنا نود التأكيد على أنه يجب أن يكون تخليد ذكرى زلزال أكادير، يوما لتقييم مدى تحقيق الأهداف العامة لمشروع نهضة أكادير وإنعاشه، والموكول إلى إرادة وإيمان المغاربة جميعا.
فالثقافة هي ما نحن عليه اليوم، وما يشكل هويتنا. لكنها كذلك تترجم نظرتنا وتصورنا للمستقبل. والثقافة والتراث عامل لا غنى عنه لأية تنمية مستدامة. ويجب تجاوز المفهوم الضيق للتراث على صعيد المدينة وحدها، دون ربطها بالمحيط الغني والجذاب.
ويتعين اليوم تنويع المنتوج والعرض الثقافي والتراثي، بل إدماجه ضمن مقاربة جهوية واسعة، تأخذ الثقافة في أبعادها المستدامة، من خلال مقاربة عمودية تدمج عناصر أخرى داخل المنظومة، كالتركيز على التعليم والتكوين الجيد، المدن المستدامة، البيئة، النمو الاقتصادي، الاستهلاك المستدام، أنماط الإنتاج، أدوار المجتمع المدني، المساواة والعدالة الاجتماعية، وغيرها…
وكذلك إدراج مقاربة أفقية تنطلق من مفهوم التراث المادي (المدن والبنايات ذات البعد التراثي) واللآمادي (الحرف والمهارات) والتراث البيئي (المحميات الطبيعية والواحات) .
فلا يمكن الحديث عن التراث المحلي دون مقاربة جهوية تتوخى التكامل، وتدمج المناطق الخلفية arrière-pays مثل مدينتي تارودانت وتيزنيت، كمدن تاريخية، هي بمثابة الأعمدة التي يقام عليها البنيان الجهوي، وإدماج الواحات والمواقع المنفردة كتافراوت وإكودار (كمخازن جماعية لحفظ ذاكرة الأمازيغ وثرواتهم وكشكل من أشكال العيش المشترك) والحفاظ على الذاكرة الحرفية كجزء من التراث اللآمادي، وتوظيف المنتزهات توظيفا جيدا خدمة للتراث الطبيعي الجهوي (منتزة ماسة وتوبقال)… باعتبارها مخازن جماعية لحفظ الذاكرة البيئية الجهوية، … وغيرها…
وهنا لا بد أن نتساءل عما أعددناه مثلا، وما سنعده غدا، على المستوى الجهوي، لتفعيل وتثمين قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخير بإقرار يوم 10 ماي من كل سنة كيوم دولي لشجرة الأركان؟
لا مستقبل بدون ذاكرة
إن إطلاق مبادرات للحفاظ على ذاكرة المدينة يكون الهدف منها توثيق الهوية الإنسانية والبشرية، بجانب الهوية المعمارية للمدينة وتصنيفها تصنيفا دقيقا، ووضع معايير دقيقة للتدخلات في بنية وهياكل البنايات ذات البعد التراثي، من خلال تطوير النمو والانفتاح والاندماج في حضارة اليوم والحفاظ على النسق المعماري، إثر عمليات التدخل: الترميم Restauration و إعادة التأهيل Réhabilitation و التجديد Rénovation (3R)
إن التراث المعمارى يمثل جزءا من التراث الجهوي، وهو عصارة الحضارات السابقة، ويشكل ملامح تطور الحياة الحضرية، وما نالته من اهتمام في ميدان البناء والتعمير أو من تهميش وتشويه كذلك.
ومدينة أكادير تزخر بكنوز معمارية متنوعة، لكونها متحفا معماريا مفتوحا، كما تصوره الرواد المؤسسون، من خلال المفوضية العليا لإعادة إعمار أكادير (HCR)، والتي تم وأدها في المهد، مع حلول سنة 1972، وهي التي تركت لنا تراثا ماديا فريدا يشكل خصوصية معمارية ويمنح هوية لأكادير بعد الزلزال، ب قيمة بناياته الجمالية والوظيفية، من خلال الوجود القوي للخرسانة الخام للمباني، وبالتعبيرات الهندسية والخطوط الصارمة، التي أراد مصمموا البنايات من خلالها أن يعكسوا الجانب الوظيفي باعتماد أشكال وأنماط البساطة في المعمار والجمال في الشكل .
ونظن أن إدماج العاصمة الجهوية كقطب جذاب في محيطها الثقافي والتراثي، هو ما سيجعلها قادرة على منافسة المنتوج الثقافي لجهات أخرى كمراكش، وجزر الكناري، … وغيرها، ويمكّنها من منافسة ثقافات مختلف الشعوب، وذلك بما يضْمَن للجهة عائدات مادية وثقافية وقيمية عديدة ويوفر لها إشعاعا واسعا، يمكن أن يسْهم في تعزيز حركيّة التنمية ببلادنا.
فالبصمة التراثية والثقافية لكل جهة تنجح فى التعبير عن خصائص كل حقبة بما تحمله من سمات تعكس صور الحياة الإجتماعية والأدبية والثقافية والفنية والبيئة بها، إذا هي اعتمدت التكامل في العرض الجهوي الواسع والغني.
وأن أي مبادرة للتعريف بذاكرة المدينة يجب أن تندرج ضمن مقاربة جهوية مستدامة للتراث والذاكرة كرسالة إنسانية وكمسئولية تاريخية تسهم فى صون معالم الحضارة الوطنية والحفاظ عليها .
وأحرى بنا أن نقدم الدليل على أن أهل أكادير الغيورين، بإدارتهم الترابية وبمجالسهم المنتخبة وبمجتمعهم المدني، سائرون في نهج استعادة وهج المدينة وإشعاعها، بعد أزيد من نصف قرن، من إعادة إعمار المدينة، مع التعامل مع كافة مساهمات الثقافات المختلفة والمدارس المعمارية الرائدة في بداية الستينات، وغيرها من البصمات المعمارية التى مرت على مجالنا الحضري، وأن ينجحوا فى إدماج وتبني البصمات النيرة والجميلة لتظل صروحا نعتز ونفتخر بوجودها، وأن يستطيعوا كذلك الارتقاء فعليا بمفهوم “القطب الجهوي” المدمج لمختلف التعبيرات الثقافية والتراثية بالجهة، بمنظورها الواسع والشاسع والمندمج …
إن هناك حاجة ملحة إلى إعادة الذاكرة الحضرية لمدينة الانبعاث إلى سابق وهجها وبريقها. وهو ما يفرض واجب تدبير الإرث الحضري تدبيرا عقلانيا، تحْكُمه الغايات والمقاصد الإستراتيجية، داخل مؤسسات منتخبة قوية ومقتنعة بالمشروع الثقافي المشترك، دون الخضوع للتجاذبات السياسية ذات الطابع الظرفي والطارئ. وأن كل تهاون أو تباطؤ في الأمر سيؤدي بنا إلى مزيد من الخسائر المادية والقيمية والرمزية.…
وأن شعورنا بالوفاء لمقولة جلالة المغفور له محمد الخامس” لئن حكمت الأقدار بخراب أكادير فإن بناءها موكول إلى إرادتنا و إيماننا “سيكون نابعا من قدرتنا جميعا على نبذ الذاتية والانغلاق والانكماش، وفتح آفاق أرحب للتكامل الجهوي عبر التعبيرات الفنية والمعمارية وعبر أشكال التعبير الثقافي (لغة ولباسا ونُظم عيش وفنون طهي وأذواق فنية… وغيرها) وكل هذا من منطلق أن ما تتيحه الثقافة، ويمنحه التراث، من وعي بالذات، ومن قوة الانتماء، ليس حاجة زائدة عن الحاجات الأساسية للإنسان، بل هو جزء لا يتجزأ من هذه الحاجات الأساسية للرقي بالمسار التنموي لبلادنا نحو الأفضل.
عبد اللطيف أعمو
للاطلاع على المقال من مصدره
انقر فوق الصورة أدناه
أضف تعليقاً